المكرمين ، أو العامل فيه فعل مضمر ، أي : اذكر (فَقالُوا سَلاماً) أي : نسلّم عليك سلاما (قالَ سَلامٌ) أي : قال إبراهيم سلام. قرأ الجمهور بنصب (سَلاماً) الأول ورفع الثاني ، فنصب الأول على المصدرية بتقدير الفعل كما ذكرنا ، والمراد به التحية ، ويحتمل أن يكون المعنى : فقالوا كلاما حسنا لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو ، فيكون على هذا مفعولا به. وأما الثاني فرفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : عليكم سلام ، ولهذا قال أهل المعاني : إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة. وقرئ بالرفع في الموضعين ، وقرئ بالنصب فيهما. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بكسر السين ، وقرئ «سلم» فيهما. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ارتفاع قوم على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : أنتم قوم منكرون. قيل : إنه قال هذا في نفسه ولم يخاطبهم به ؛ لأن ذلك يخالف الإكرام. قيل : إنه أنكرهم لكونهم ابتدءوا بالسلام ولم يكن ذلك معهودا عند قومه ، وقيل : لأنه رأى فيهم ما يخالف بعض الصور البشرية ، وقيل : لأنه رآهم على غير صورة الملائكة الذين يعرفهم ، وقيل : غير ذلك (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) قال الزّجّاج : أي عدل إلى أهله ، وقيل : ذهب إليهم في خفية من ضيوفه ، والمعنى متقارب ، وقد تقدّم تفسيره في سورة الصافات. يقال : راغ وارتاغ بمعنى طلب ، وماذا يريغ : أي يرصد ويطلب ، وأراغ إلى كذا : مال إليه سرّا وحاد (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي : فجاء ضيفه بعجل قد شواه لهم ، كما في سورة هود (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) وفي الكلام حذف تدل عليه الفاء الفصيحة ، أي : فذبح عجلا فحنذه فجاء به (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي : قرّب العجل إليهم ووضعه بين أيديهم ف (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) الاستفهام للإنكار ، وذلك أنه لما قربه إليهم لم يأكلوا منه. قال في الصّحاح : العجل ولد البقر ، والعجول مثله ، والجمع العجاجيل والأنثى عجلة ، وقيل : العجل في بعض اللغات الشاة (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي : أحسّ في نفسه خوفا منهم لما لم يأكلوا ممّا قرّبه إليهم. وقيل : معنى أوجس أضمر ، وإنما وقع له ذلك لما لم يتحرموا بطعامه ، ومن أخلاق الناس أنّ من أكل من طعام إنسان صار آمنا منه ، فظن إبراهيم أنهم جاءوا للشرّ ولم يأتوا للخير. وقيل : إنه وقع في قلبه أنهم ملائكة ، فلما رأوا ما ظهر عليه من أمارات الخوف (قالُوا لا تَخَفْ) وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه من جهة الله سبحانه (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي : بشروه بغلام يولد له كثير العلم عند ما يبلغ مبالغ الرجال ، والمبشّر به عند الجمهور هو إسحاق. وقال مجاهد وحده : إنه إسماعيل ، وهو مردود بقوله : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) وقد قدّمنا تحقيق هذا المقام بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) لم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان ، وإنما هو كقولك : أقبل يشتمني ، أي : أخذ في شتمي ، كذا قال الفراء وغيره. والصرّة : الصيحة والضجّة ، وقيل : الجماعة من الناس. قال الجوهري : الصرّة : الضجّة والصيحة ، والصرّة : الجماعة ، والصرّة ، الشدّة من كرب أو غيره ، والمعنى : أنها أقبلت في صيحة ، أو في ضجّة ، أو في جماعة من الناس يستمعون كلام الملائكة ، ومن هذا قول امرئ القيس :
فألحقه بالهاديات ودونه |
|
جواحرها في صرّة لم تزيّل (١) |
__________________
(١). «الهاديات» : أوائل بقر الوحش. «جواحرها» : متخلفاتها. «لم تزيل» : لم تتفرق.