واحدة (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي : فأوحى جبريل إلى محمد صلىاللهعليهوسلم ما أوحى ، وفيه تفخيم للوحي الّذي أوحي إليه ، والوحي : إلقاء الشيء بسرعة ، ومنه الوحاء وهو السرعة ، والضمير في عبده يرجع إلى الله ، كما في قوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (١) وقيل : المعنى : فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى ، وبالأوّل قال الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. وقيل : فأوحى الله إلى عبده محمد. قيل : وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل إلى محمد ، أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل ، أو إلى محمد ، ولم يبينه لنا ، فليس لنا أن نتعرّض لتفسيره. وقال سعيد بن جبير : الّذي أوحى إليه هو (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إلخ (٢) ، و (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) إلخ (٣). وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها [يا محمد] (٤) ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. وقيل : إن «ما» للعموم لا للإبهام ، والمراد كل ما أوحى به إليه ، والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي : ما كذب فؤاد محمد صلىاللهعليهوسلم ما رآه بصره ليلة المعراج ، يقال : كذبه ؛ إذا قال له الكذب ولم يصدقه. قال المبرد : معنى الآية أنه رأى شيئا فصدق فيه. قال الجمهور (ما كَذَبَ) مخففا ، وقرأ هشام وأبو جعفر بالتشديد ؛ و «ما» في (ما رَأى) موصولة أو مصدرية ، في محل نصب بكذب ، مخففا ومشدّدا (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى). قرأ الجمهور : (أَفَتُمارُونَهُ) بالألف من المماراة ، وهي المجادلة والملاحاة ، وقرأ حمزة والكسائي : «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم ، أي : أفتجحدونه ، واختار أبو عبيد القراءة الثانية : قال : لأنهم لم يماروه وإنما جحدوه ، يقال : مراه حقه ، أي : جحده ، ومريته أنا : جحدته. قال : ومنه قول الشاعر :
لئن هجوت أخا صدق ومكرمة |
|
لقد مريت أخا ما كان يمريكا |
أي : جحدته. قال المبرد : يقال مراه عن حقه وعلى حقه : إذا منعه منه ودفعه عنه (٥). وقيل : على بمعنى عن. وقرأ ابن مسعود والشعبي ومجاهد والأعرج «أفتمرونه» بضم التاء من أمريت ، أي : أتريبونه وتشكّون فيه. قال جماعة من المفسرين : المعنى على قراءة الجمهور : أفتجادلونه ، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا مسجد بيت المقدس ، أي : أفتجادلونه جدالا ترمون به دفعه عمّا شاهده وعلمه ، واللام في قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) هي الموطئة للقسم ، أي : والله لقد رآه نزلة أخرى ، والنزلة : المرة من النزول ، فانتصابها على الظرفية ، أو منتصبة على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : رأى جبريل نازلا نزلة أخرى ؛ أو على أنه صفة مصدر مؤكد محذوف ، أي : رآه رؤية أخرى. قال جمهور المفسرين :
المعنى أنه رأى محمد جبريل مرّة أخرى ، وقيل : رأى محمد ربّه مرّة أخرى بفؤاده (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) الظرف منتصب برآه ، والسّدر : هو شجر النّبق ، وهذه السدرة هي في السماء السادسة كما في الصحيح ،
__________________
(١). فاطر : ٤٥.
(٢). الشرح : ١ ـ ٨.
(٣). الضحى : آية ٦ إلى آخر السورة.
(٤). من تفسير القرطبي (١٧ / ٩٢)
(٥). من تفسير القرطبي (١٧ / ٩٣)