كَالْفَخَّارِ) لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير ، وهو السماء والأرض وما فيهما ، ذكر خلق العالم الصغير ، والمراد بالإنسان هنا آدم. قال القرطبي : باتفاق من أهل التأويل ، ولا يبعد أن يراد الجنس لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم ، والصّلصال : الطين اليابس الّذي يسمع له صلصلة ، وقيل : هو طين خلط برمل ، وقيل : هو الطين المنتن ، يقال : صلّ اللحم وأصلّ إذا أنتن ، وقد تقدّم بيانه في سورة الحجر ، والفخار : الخزف الّذي طبخ بالنار ، والمعنى : أنه خلق الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف. (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) يعني خلق أبا الجنّ أو جنس الجن من مارج من نار ، والمارج : اللهب الصافي من النار ، وقيل : الخالص منها ، وقيل : لسانها الّذي يكون في طرفها إذا التهبت ، وقال الليث : المارج : الشّعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وقال المبرد : المارج : النار المرسلة التي لا تمنع ، وقال أبو عبيدة : المارج : خلط النار ، من مرج إذا اختلط واضطرب. قال الجوهري : (مارِجٍ مِنْ نارٍ) : نار لا دخان لها ، خلق منها الجان. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قرأ الجمهور : «ربّ» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ربّ المشرقين والمغربين ، وقيل : مبتدأ وخبره (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) وما بينهما اعتراض ، والأوّل أولى ، والمراد بالمشرقين مشرقا الشتاء والصيف ، وبالمغربين مغرباهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن في ذلك من النعم ما لا يحصى ولا يتيسر لمن أنصف من نفسه تكذيب فرد من أفراده (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) المرج : التخلية والإرسال ، يقال : مرجت الدابة ؛ إذا أرسلتها ، وأصله الإهمال كما تمرج الدّابة في المرعى ، والمعنى : أنه أرسل كل واحد منهما ، يلتقيان : أي يتجاوران لا فصل بينهما في مرأى العين ، ومع ذلك فلم يختلطا ، ولهذا قال : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي : حاجز يحجز بينهما (لا يَبْغِيانِ) أي : لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يدخل فيه ويختلط به. قال الحسن وقتادة : هما بحر فارس والروم. وقال ابن جريج : هما البحر المالح والأنهار العذبة ، وقيل : بحر المشرق والمغرب ، وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان ، وقيل : بحر السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام ، وقيل : يلتقي طرفاهما. وقوله : (يَلْتَقِيانِ) في محلّ نصب على الحال من البحرين ، وجملة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن هذه الآية وأمثالها لا يتيسّر تكذيبها بحال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ). قرأ الجمهور : (يَخْرُجُ) بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل ، وقرأ نافع وأبو عمرو بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول ، واللؤلؤ : الدرّ ، والمرجان : الخرز الأحمر المعروف. وقال الفراء : اللؤلؤ : العظام ، والمرجان ما صغر. قال الواحدي : وهو قول جميع أهل اللغة. وقال مقاتل والسدي ومجاهد : اللؤلؤ صغاره ، والمرجان كباره ، وقال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وإنما يخرج ذلك من المالح لا من العذب ، لأنه إذا خرج من أحد هما فقد خرج منهما ، كذا قال الزجاج وغيره. وقال أبو على الفارسي : هو من باب حذف المضاف ، أي : من أحدهما ، كقوله : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١). وقال الأخفش : زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب ، وقيل : هما بحران يخرج من
__________________
(١). الزخرف : ٣١.