وأولادهم ، ويتطاولون بذلك على الفقراء. ثم بيّن سبحانه لهذه الحياة شبها ، وضرب لها مثلا ، فقال : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أي : كمثل مطر أعجب الزراع نباته ، والمراد بالكفار هنا الزّرّاع لأنهم يكفرون البذر ، أي : يغطونه بالتراب ، ومعنى نباته : النبات الحاصل به (ثُمَّ يَهِيجُ) أي : يجفّ بعد خضرته وييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أي : متغيّرا عما كان عليه من الخضرة والرّونق إلى لون الصفرة والذبول (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي : فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه ، وقد تقدّم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف. والمعنى : أن الحياة كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته وكثرة نضارته ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما تبنا كأن لم يكن. وقرئ «مصفارّا» والكاف في محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف. ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا وسرعة زوالها ؛ ذكر ما أعدّه للعصاة في الدار الآخرة فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) وأتبعه ما أعدّه لأهل الطاعة فقال : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) والتنكير فيها للتعظيم. قال قتادة : عذاب شديد لأعداء الله ، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. قال الفراء : التقدير في الآية إما عذاب شديد ، وإما مغفرة ، فلا يوقف على «شديد». ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا فقال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) لمن اغترّ بها ولم يعمل لآخرته. قال سعيد بن جبير : متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة. ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه. وهذه الجملة مقرّرة للمثل المتقدّم ومؤكدة له. ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح ؛ فإن ذلك سبب إلى الجنة ، فقال : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم ، وتوبوا ممّا وقع منكم من المعاصي ، وقيل : المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول ، وقيل : المراد الصف الأوّل ، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا ، بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقا شموليا أو بدليا (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : كعرضهما ، وإذا كان هذا قدر عرضها فما ظنّك بطولها. قال الحسن : يعني جميع السماوات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها ، وقيل : المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة. وقال ابن كيسان : عنى به جنة واحدة من الجنات ، والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن [سعة] (١) الشيء بعرضه دون طوله ، ومن ذلك قول الشاعر :
كأنّ بلاد الله وهي عريضة |
|
على الخائف المطلوب كفّة حابل |
وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران. ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى فقال : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرّد الإيمان بالله ورسله ، ولكن هذا مقيّد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلّا من عمل بما فرض الله عليه ، واجتنب ما نهاه الله عنه ، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما وعد به
__________________
(١). من تفسير القرطبي (١٧ / ٢٥٦)