منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان ، فقال : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ، ولهذا أخبر عنه بالجمع ، و «أفّ» كلمة تصدر عن قائلها عند تضجّره من شيء يرد عليه. قرأ نافع وحفص (أُفٍ) بكسر الفاء مع التنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن بفتحها من غير تنوين ، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين ، وهي لغات ، وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل ، واللام في قوله : (لَكُما) لبيان التأفيف ، أي : التأفيف لكما ، كما في قوله : (هَيْتَ لَكَ) (١) قرأ الجمهور : (أَتَعِدانِنِي) بنونين مخففتين ، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة وأسكنها الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى ، ورويت هذه القراءة عن نافع. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى ، كأنهم فرّوا من توالي مثلين مكسورين. وقرأ الجمهور : (أَنْ أُخْرَجَ) بضم الهمزة وفتح الراء مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبنيا للفاعل. والمعنى : أتعدانني أن أبعث بعد الموت ، وجملة : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا ولم يبعث منهم أحد ، وهكذا جملة : (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنهما يستغيثان الله له ، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان ، واستغاث يتعدّى بنفسه وبالباء ، يقال : استغاث الله واستغاث به. وقال الرازي : معناه يستغيثان بالله من كفره ، فلما حذف الجار وصل الفعل ، وقيل : الاستغاثة الدعاء ، فلا حاجة إلى الباء. قال الفرّاء : يقال أجاب الله دعاءه وغواثه ، وقوله : (وَيْلَكَ) هو بتقدير القول ، أي : يقولان له ويلك ، وليس المراد به الدعاء فيه ، بل الحثّ له على الإيمان ، ولهذا قالا له : (آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : آمن بالبعث إن وعد الله حقّ لا خلف فيه (فَيَقُولُ) عند ذلك مكذّبا لما قالاه : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما هذا الّذي تقولانه من البعث إلا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم التي سطّروها في الكتاب. قرأ الجمهور : «إن وعد الله» بكسر إن على الاستئناف أو التعليل ، وقرأ عمر بن فائد والأعرج بفتحها على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء. أي : آمن بأن وعد الله بالبعث حقّ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حقّ عليهم القول ، أي : وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) كما يفيده قوله : (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ، وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢) تعليل لما قبله ، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرّحمن بن أبي بكر ، وأنه الّذي قال لوالديه ما قال ، فإنه من أفاضل المؤمنين ، وليس ممّن حقّت عليه كلمة العذاب ، وسيأتي بيان سبب النزول في آخر البحث إن شاء الله (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي : لكلّ فريق من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجنّ والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد : درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلا ، ودرجات أهل الجنة تذهب علوّا (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي : جزاء أعمالهم. قرأ
__________________
(١). يوسف : ٢٣.
(٢). ص : ٨٥.