الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ؛ لأن الله تعالى قدّر ذلك عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل. قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال وهو الّذي عليه جمهور الأمة ، وقدّم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم.
ثم لما ذكر سبحانه خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : بالحكمة البالغة. وقيل : خلق ذلك خلقا يقينا لا ريب فيه ، وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي : خلق ذلك لإظهار الحق ، وهو أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) قيل : المراد آدم ، خلقه بيده كرامة له ، كذا قال مقاتل ، وقيل : المراد جميع الخلائق ، وهو الظاهر ، أي : أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم وأجمل شكل. والتصوير : التخطيط والتشكيل. قرأ الجمهور : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بضمّ الصاد ، وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وأبو زيد بكسرها. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) في الدار الآخرة ، لا إلى غيره. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا تخفى عليه من ذلك خافية (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي : ما تخفونه وما تظهرونه ، والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم ، وهي تذييلية (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود ، والخطاب لكفار العرب (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) بسبب كفرهم ، والوبال : الثقل والشدّة ، والمراد بأمرهم هنا ما وقع منهم من الكفر والمعاصي ، وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وذلك في الآخرة وهو عذاب النار ؛ والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما ذكر من العذاب في الدارين ، وهو مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي : قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر ، متعجبين من ذلك ، وأراد بالبشر الجنس ، ولهذا قال يهدوننا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أي : كفروا بالرسل وبما جاءوا به ، وأعرضوا عنهم ، ولم يتدبروا فيما جاءوا به ، وقيل : كفروا بهذا القول الّذي قالوه للرسل (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم وعبادتهم. وقال مقاتل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان ، وأوضحه من المعجزات ، وقيل : استغنى بسلطانه عن طاعة عباده (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي : غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له ، محمود من كلّ مخلوقاته بلسان المقال والحال.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا مكث المنيّ في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس ، فعرج به إلى الربّ فيقول : يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض ، فيقول : أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق ، وقرأ أبو ذرّ من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)». وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا ، والعبد يولد كافرا