والأوّل أولى ، لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي : إنهم أعرضوا عن قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواس التي تدرك بها الأدلة ، ولهذا قال : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصّلوا به إلى التوحيد وصحّة الوعد والوعيد ، وقد قدّمنا من الكلام على وجه إفراد السمع وجمع البصر ما يغني عن الإعادة ، و «من» في (مِنْ شَيْءٍ) زائدة ، والتقدير : فما أغنى عنهم شيئا من الإغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) الظرف متعلّق بأغنى ، وفيها معنى التعليل ، أي : لأنهم كانوا يجحدون (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : أحاط بهم العذاب الّذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا). (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) الخطاب لأهل مكة ، والمراد بما حولهم من القرى قرى ثمود ، وقرى لوط ، ونحو هما مما كان مجاورا لبلاد الحجاز ، وكانت أخبارهم متواترة عندهم (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : بيّنّا الحجج ونوّعناها لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا. ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أي : فهلّا نصرهم آلهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم ، حيث قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي : القربان : كلّ ما يتقرّب به إلى الله من طاعة ونسيكة ، والجمع قرابين ، كالرّهبان والرّهابين ، وأحد مفعولي «اتخذوا» ضمير راجع إلى الموصول ، والثاني آلهة ، وقربانا حال ، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا ، وآلهة بدلا منه لفساد المعنى ، وقيل : يصحّ ذلك ولا يفسد المعنى ، ورجّحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيّان ، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي : غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم ، وقيل : بل هلكوا ، وقيل : الضمير في «ضلوا» راجع إلى الكفار ، أي : تركوا الأصنام وتبرّؤوا منها ، والأوّل أولى ، والإشارة بقوله : (وَذلِكَ) إلى ضلال آلهتهم. والمعنى : وذلك الضلال والضياع أثر (إِفْكُهُمْ) الّذي هو اتخاذهم إياها آلهة وزعمهم أنها تقرّبهم إلى الله. قرأ الجمهور : (إِفْكُهُمْ) بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكا ، أي : كذبهم. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل ، أي : ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء ، أي : صيّرهم آفكين. قال أبو حاتم : يعني قلبهم عمّا كانوا عليه من النعيم ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمدّ وكسر الفاء ، بمعنى صارفهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) معطوف على إفكهم ، أي : وأثر افترائهم أو أثر الّذي كانوا يفترونه. والمعنى : وذلك إفكهم ، أي : كذبهم الّذي كانوا يقولون إنها تقرّبهم إلى الله وتشفع لهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يكذبون أنها آلهة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأحقاف : جبل بالشام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه في قوله : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) قال : هو السحاب. وأخرج البخاريّ ومسلم وغير هما عن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان