من ذلك الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدلّ على قولهم ، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ويستغنون بذلك عن الإجابة لك والامتثال لما تقوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لقضائه الّذي قد قضاه في سابق علمه ، قيل : والحكم هنا هو إمهالهم وتأخير نصرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليهم ، وقيل : هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة ، قيل : وهذا منسوخ بآية السيف (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني يونس عليهالسلام ، أي : لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة. والظرف في قوله : (إِذْ نادى) منصوب بمضاف محذوف ، أي : لا تكن حالك كحاله وقت ندائه ، وجملة (وَهُوَ مَكْظُومٌ) في محل نصب على الحال من فاعل نادى ، والمكظوم : المملوء غيظا وكربا. قال قتادة : إن الله يعزّي نبيه صلىاللهعليهوسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت ، وقد تقدّم بيان قصته في سورة الأنبياء ويونس والصّافّات ، وكان النداء منه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (١) وقيل : إن المكظوم : المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس. قاله المبرّد ، وقيل : هو المحبوس ، والأوّل أولى ، ومنه قول ذي الرّمة :
وأنت من حبّ ميّ مضمر حزنا |
|
عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم |
(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : لو لا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من الله وهي توفيقه للتوبة فتاب الله عليه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) أي : لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات (وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي : يذمّ ويلام بالذنب الّذي أذنبه ويطرد من الرحمة ، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير نبذ. قال الضحاك : النعمة هنا للنبوّة. وقال سعيد بن جبير : عبادته التي سلفت. وقال ابن زيد : هي نداؤه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقيل : مذموم : مبعد. وقيل : مذنب. قرأ الجمهور : (تَدارَكَهُ) على صيغة الماضي ، وقرأ الحسن وابن هرمز والأعمش بتشديد الدال ، والأصل تتداركه بتاءين مضارعا فأدغم ، وتكون هذه القراءة على حكاية الحال الماضية ، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس تداركته بتاء التأنيث (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي : استخلصه واصطفاه واختاره للنبوّة (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : الكاملين في الصلاح وعصمه من الذنب ، وقيل : ردّ إليه النبوّة وشفعه في نفسه وفي قومه ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون كما تقدّم (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) إن هي المخففة من الثقيلة. قرأ الجمهور : (لَيُزْلِقُونَكَ) بضم الياء من أزلقه ، أي : أزلّ رجله ، يقال : أزلقه عن موضعه إذا نحّاه ، وقرأ نافع وأهل المدينة بفتحها من زلق عن موضعه ؛ وإذا تنحّى. قال الهروي : أي : فيغتالونك بعيونهم فيزلقونك عن مقامك الّذي أقامك الله فيه عداوة لك ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش ومجاهد وأبو وائل ليرهقونك أي : يهلكونك. وقال الكلبي : (لَيُزْلِقُونَكَ) أي : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة ، وكذا قال السدّي وسعيد بن جبير. وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك. وقال
__________________
(١). الأنبياء : ٨٧.