الخديعة ؛ على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة ، يقال : أثرت الحديث آثره ؛ إذا ذكرته عن غيرك ، ومنه قول الأعشى :
إنّ الّذي فيه تماريتما |
|
بيّن للسّامع والآثر |
(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) يعني أنه كلام الإنس ، وليس بكلام الله ، وهو تأكيد لما قبله ، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة ، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه. ولما قال هذا القول الّذي حكاه الله عنه قال الله عزوجل : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي : سأدخله النار ، وسقر من أسماء النار ، ومن دركات جهنم ، وقيل : إن هذه الجملة بدل من قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) أي : وما أعلمك أي شيء هي؟ والعرب تقول : وما أدراك ما كذا ؛ إذا أرادوا المبالغة في أمره وتعظيم شأنه وتهويل خطبه ، و «ما» الأولى مبتدأ ، وجملة «ما سقر» خبر المبتدأ. ثم فسّر حالها فقال : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) والجملة مستأنفة لبيان حال سقر ، والكشف عن وصفها ، وقيل : هي في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم ، لأن قوله : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) يدلّ على التعظيم ، فكأنه قال : استعظموا سقر في هذه الحال ، والأوّل أولى ، ومفعول الفعلين محذوف. قال السدّي : لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما. وقال عطاء : لا تبقي من فيها حيّا ولا تذره ميتا ، وقيل : هما لفظان بمعنى واحد ، كرّرا للتأكيد ، كقولك : صدّ عني ، وأعرض عني. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قرأ الجمهور : (لَوَّاحَةٌ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : على أنه نعت لسقر ، والأوّل أولى وقرأ الحسن وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل ، لاح يلوح ، والمعنى : أنها تظهر للبشر. قال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عيانا كقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (١) وقيل : معنى (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي : مغيرة لهم ومسوّدة. قال مجاهد : والعرب تقول : لاحه الحرّ والبرد والسّقم والحزن ؛ إذا غيره ، وهذا أرجح من الأوّل ؛ وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر :
وتعجب هند أن رأتني شاحبا |
|
تقول لشيء لوّحته السّمائم (٢) |
أي : غيرته. ومنه قول رؤبة بن العجّاج :
لوّح منه بعد بدن وسنق |
|
تلويحك الضّامر يطوى للسّبق (٣) |
__________________
(١). النازعات : ٣٦.
(٢). «السمائم» : جمع سموم ، وهي الريح الحارّة.
(٣). «البدن» : السمن واكتناز اللحم. «السنق» : الشبع حتى يكون كالتخمة. «الضامر» : الفرس. «يطوى» : يجوع.