يوجب أن يكون المعنى : أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الإهلاك. وليس كذلك ؛ لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد. ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود «ثم سنتبعهم الآخرين». وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو و «نتبعهم» بالجزم عطفا على «نهلك». قال شهاب الدين : على جعل الفعل معطوفا على مجموع الجملة من قوله : «ألم نهلك». (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي : مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم ، يريد من يهلكه فيما بعد ، والكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف ، أي : مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله ، قيل : الويل الأوّل لعذاب الآخرة ، وهذا لعذاب الدنيا (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي : ضعيف حقير ، وهو النطفة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي : مكان حريز ، وهو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي : إلى مقدار معلوم ، وهو مدّة الحمل ، وقيل : إلى أن يصوّر (فَقَدَرْنا) قرأ الجمهور : «فقدرنا» بالتخفيف. وقرأ نافع والكسائي بالتشديد من التقدير. قال الكسائي والفراء : وهما لغتان بمعنى ، تقول : قدّرت كذا ، وقدرته (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) أي : نعم المقدّرون نحن ، قيل : المعنى : قدّرناه قصيرا أو طويلا ، وقيل : معنى قدّرنا ملكنا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بقدرتنا على ذلك. ثم بيّن لهم بديع صنعه وعظيم قدرته ليعتبروا ، فقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) معنى الكفت في اللغة : الضم والجمع ، يقال : كفت الشيء ؛ إذا ضمّه وجمعه ، ومن هذا يقال للجراب والقدر : كفت ، والمعنى : ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها والأموات في باطنها تضمهم وتجمعهم. قال الفرّاء : يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم ، وتكفتهم أمواتا في بطنها ، أي : تحوزهم ، وهو معنى قوله : (أَحْياءً وَأَمْواتاً) وأنشد سيبويه :
كرام حين تنكفت الأفاعي |
|
إلى أجحارهنّ من الصّقيع |
قال أبو عبيدة : (كِفاتاً) أوعية ، ومنه قول الشاعر :
فأنت اليوم فوق الأرض حيّا |
|
وأنت غدا تضمّك في كفات |
أي : في قبر ، وقيل : معنى جعلها كفاتا ؛ أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات. قال الأخفش وأبو عبيدة : الأحياء والأموات وصفان للأرض ، أي : الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الّذي ينبت ، وإلى ميت وهو الّذي لا ينبت. قال الفراء : انتصاب أحياء وأمواتا بوقوع الكفات عليه ، أي : ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات ، فإذا نوّن نصب ما بعده ، وقيل : نصبا على الحال من الأرض ، أي : ومنها كذا ، وقيل : هو مصدر نعت به للمبالغة. وقال الأخفش : كفاتا جمع كافتة ، والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل : التكفيت : تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر ، ويقال : انكفت القوم إلى منازلهم ، أي : ذهبوا (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي : جبالا طوالا ، والرواسي : الثوابت ، والشامخات : الطوال ، وكل عال فهو شامخ (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي : عذبا ، والفرات : الماء العذب يشرب منه ويسقى به. قال مقاتل : وهذا كله أعجب من البعث (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هذه من جملتها.