بينهم سؤال. قال الله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ـ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) (١) الآية ، وهذا يدل على أنه التحدّث ، ولفظ «ما» موضوع لطلب حقائق الأشياء ، وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولا ، فجعل الشيء العظيم الّذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول ، ولهذا جاء سبحانه بلفظ ما. ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا وبيّنه فقال : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) فأورده سبحانه أوّلا على طريقة الاستفهام ، مبهما لتتوجه إليه أذهانهم ، وتلتفت إليه أفهامهم ، ثم بينه بما يفيد تعظيمه وتفخيمه كأنه قيل : عن أيّ شيء يتساءلون هل أخبركم به؟ ثم قيل : بطريق الجواب : «عن النبأ العظيم» على منهاج قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) فالجارّ والمجرور متعلق بالفعل الّذي قبله ، أو بما يدلّ عليه. قال ابن عطية : قال أكثر النحاة : عن النبأ العظيم متعلق بيتساءلون الظاهر ، كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ العظيم ، وقيل : ليس بمتعلق بالفعل المذكور ؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون التقدير : أعن النبأ العظيم؟ فلزم أن يتعلق بيتساءلون آخر مقدّر ، وإنما كان ذلك النبأ ، أي : القرآن ، عظيما ؛ لأنه ينبئ عن التوحيد وتصديق الرسول ووقوع البعث والنشور. قال الضحاك : يعني نبأ يوم القيامة ، وكذا قال قتادة ، وقد استدلّ على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فإنهم اختلفوا في القرآن ، فجعله بعضهم سحرا ، وبعضهم شعرا ، وبعضهم كهانة ، وبعضهم قال : هو أساطير الأوّلين. وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره. ويمكن أن يقال : إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة ، فصدّق به المؤمنون وكذب به الكافرون ، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية ، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل ، ومما يدلّ على أنه القرآن قوله سبحانه : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ـ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٣) ومما يدلّ على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخفية. وأيضا فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث ؛ فأثبت النصارى المعاد الروحاني ، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني ، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ «جنعيذا» بجيم مفتوحة ثم نون ساكنة ثم عين مكسورة مهملة ثم تحتية ساكنة ثم ذال معجمة بعدها ألف. وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد ، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين والعذاب للعاصين ، وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٤) وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه ، بل شاكّة فيه ، كما حكى الله عنهم بقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٥) وما حكاه عنهم بقوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (٦) فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة. وقد قيل : إن الضمير في قوله : يتساءلون يرجع إلى المؤمنين والكفار لأنهم جميعا كانوا يتساءلون عنه ، فأما المسلم فيزداد يقينا واستعدادا وبصيرة في دينه ، وأما
__________________
(١). الصافات : ٥٠ ـ ٥١.
(٢). غافر : ١٦.
(٣). ص : ٦٧ ـ ٦٨.
(٤). الجاثية : ٢٤.
(٥). الجاثية : ٣٢.
(٦). فصلت : ٥٠.