وانتصاب غثاء على أنه المفعول الثاني ، أو على الحال ، وأحوى صفة له. وقال الكسائي : هو حال من المرعى ، أي : أخرجه أحوى من شدّة الخضرة والريّ (فَجَعَلَهُ غُثاءً) بعد ذلك ، والأحوى مأخوذ من الحوّة ، وهي سواد يضرب إلى الخضرة. قال في الصحاح : والحوّة : سمرة الشفة ، ومنه قول ذي الرّمّة :
لمياء في شفتيها حوّة لعس |
|
وفي اللّثات وفي أنيابها شنب (١) |
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي : سنجعلك قارئا بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه ، والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلىاللهعليهوسلم الخاصة به بعد بيان الهداية العامة ، وهي هدايته صلىاللهعليهوسلم لحفظ القرآن. قال مجاهد والكلبي : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلّم النبيّ صلىاللهعليهوسلم بأوّلها مخافة أن ينساها ، فنزلت : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) وقوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرغ من أعمّ المفاعيل ، أي : لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه. قال الفرّاء : وهو لم يشأ سبحانه أن ينسى محمد صلىاللهعليهوسلم شيئا كقوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (٢) وقيل : إلا ما شاء الله أن تنسى ثم تذكر بعد ذلك ، فإذن قد نسي ولكنه يتذكر ولا ينسى شيئا نسيانا كليا. وقيل بمعنى النسخ : أي إلّا ما شاء الله أن ينسخه مما نسخ تلاوته. وقيل : معنى فلا تنسى : فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه. وقيل : المعنى : إلا ما شاء الله أن يؤخّر إنزاله. وقيل : «لا» في قوله : (فَلا تَنْسى) للنهي. والألف مزيدة لرعاية الفاصلة ، كما في قوله : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٣) يعني فلا تغفل قراءته وتذكره (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) الجملة تعليل لما قبلها ، أي : يعلم ما ظهر وما بطن والإعلان والإسرار ، وظاهره العموم فيندرج تحته ما قيل إن الجهر ما حفظه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من القرآن ، وما يخفى هو ما نسخ من صدره ، ويدخل تحته أيضا ما قيل من أن الجهر : هو إعلان الصدقة ، وما يخفى ، هو إخفاؤها ، ويدخل تحته أيضا ما قيل : إن الجهر جهره صلىاللهعليهوسلم بالقرآن مع قراءة جبريل مخافة أن يتفلت عليه ، وما يخفى ما في نفسه مما يدعوه إلى الجهر (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) معطوف على «سنقرئك» ، وما بينهما اعتراض. قال مقاتل : أي نهوّن عليك عمل الجنة ، وقيل : نوفّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، وقيل : للشريعة اليسرى ، وهي الحنيفية السهلة ، وقيل : نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل له ، والأولى حمل الآية على العموم ، أي : نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا في كلّ أمر من أمورهما التي تتوجه إليك (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي : عظ يا محمد الناس بما أوحينا إليك وأرشدهم إلى سبل الخير واهدهم إلى شرائع الدين. قال الحسن : تذكرة للمؤمن وحجّة على الكافر. قال الواحدي : إن نفعت أو لم تنفع ، لأن النبيّ صلىاللهعليهوسلم بعث مبلّغا للإعذار والإنذار ، فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع ، ولم يذكر الحالة الثانية كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٤) الآية. قال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع ، فالمعنى : إن نفعت
__________________
(١). «اللمياء» : الشفة اللطيفة القليلة الدم. «اللعس» : لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا وذلك يستملح. «الشنب» : برودة وعذوبة في الفم ، ورقّه في الأسنان.
(٢). هود : ١٠٧.
(٣). الأحزاب : ٦٧.
(٤). النحل : ٨١.