قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) اختلف في تعيين هذا الفتح ، فقال الأكثر : هو صلح الحديبية ، والصّلح قد يسمّى فتحا. قال الفرّاء : والفتح قد يكون صلحا ، ومعنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق ، والصّلح الّذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذّرا حتى فتحه الله. قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام. قال الشعبي : لقد أصاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرّضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محلّه ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال قوم : إنه فتح مكة. وقال آخرون : إنه فتح خيبر. والأوّل أرجح ، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية. وقيل : هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح ، وقيل : هو ما فتح له من النبوّة والدعوة إلى الإسلام ، وقيل : فتح الروم ، وقيل : المراد بالفتح في هذه الآية الحكم والقضاء ، كما في قوله : (افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) فكأنه قال : إنا قضينا لك قضاء مبينا ، أي : ظاهرا واضحا مكشوفا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) اللام متعلقة بفتحنا ، وهي لام العلة. قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس ، يعني المبرد ، عن اللام في قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) فقال : هي لام كي ، معناها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع ؛ حسن معنى كي ، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة. وقال صاحب الكشاف : إن اللام لم تكن علّة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عزّ الدارين ، وأعراض العاجل والآجل. وهذا كلام غير جيد ، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح. فكيف يصح أن تكون معللة؟ وقال الرازي في توجيه التعليل : إن المراد بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) التعريف بالمغفرة تقديره : إنا فتحنا لك لنعرف أنك مغفور لك معصوم. وقال ابن عطية : المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك. فكأنها لام الصيرورة. وقال أبو حاتم : هي لام القسم وهو خطأ ، فإن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها.
واختلف في معنى قوله : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فقيل : ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر بعدها ، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم. وقال عطاء : ما تقدّم من ذنبك : يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ، وما تأخر من ذنوب أمتك. وما أبعد هذا عن معنى القرآن! وقيل : ما تقدّم من ذنب أبيك أبيك إبراهيم ، وما تأخر من ذنوب النّبيين من بعده ، وهذا كالذي قبله. وقيل : ما تقدّم من ذنب يوم بدر ، وما تأخر من ذنب يوم حنين ، وهذا كالقولين الأولين في البعد. وقيل : لو كان ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك ، وقيل : غير ذلك مما لا وجه له ، والأوّل أولى. ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى ، وسمّي ذنبا في حقه لجلالة قدره وإن لم يكن ذنبا في حق غيره (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإظهار دينك على الدين كله ، وقيل : بالجنة ، وقيل : بالنبوّة والحكمة ، وقيل : بفتح مكة والطائف وخيبر ، والأولى أن