في كلام آخر كقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (١) وإنما أفردها هنا لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قائما مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ، ولا آمن. قال المبرد وأبو علي الفارسي : إن «لا» هنا بمعنى لم ، أي : فلم يقتحم العقبة ، وروي نحو ذلك عن مجاهد ، فلهذا لم يحتج إلى التكرير ، ومنه قول زهير :
وكان طوى كشحا على مستكنّة |
|
فلا هو أبداها ولم يتقدّم |
أي : فلم يبدها ولم يتقدم ، وقيل : هو جار مجرى الدعاء كقولهم : لا نجا. قال أبو زيد وجماعة من المفسرين : معنى الكلام هنا الاستفهام الّذي بمعنى الإنكار ، تقديره : أفلا اقتحم العقبة ، أو هلا اقتحم العقبة. ثم بيّن سبحانه العقبة فقال (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي : أيّ شيء أعلمك ما اقتحامها (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي هي إعتاق رقبة وتخليصها من أسار الرّق ، وكل شيء أطلقته فقد فككته ، ومنه : فك الرهن ، وفك الكتاب ، فقد بيّن سبحانه أن العقبة هي هذه القرب المذكورة التي تكون بها النجاة من النار. قال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي : هي الصراط الّذي يضرب على جهنم كحدّ السيف. وقال كعب : هي نار دون الجسر. قيل : وفي الكلام حذف ، أي : وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي «فك رقبة» على أنه فعل ماض ونصب رقبة على المفعولية ، وهكذا قرءوا أو أطعم : على أنه فعل ماض. وقرأ الباقون فكّ أو إطعام على أنهما مصدران وجرّ رقبة بإضافة المصدر إليها ، فعلى القراءة الأولى يكون الفعلان بدلا من اقتحم أو بيانا له كأنه قيل : فلا فك ولا أطعم ، والفكّ في الأصل : حلّ القيد ، سمّي العتق فكّا لأن الرق كالقيد ، وسمى المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) المسغبة : المجاعة ، والسّغب : الجوع ، والساغب : الجائع. قال الراغب : يقال منه : سغب الرجل سغبا وسغوبا فهو ساغب وسغبان ، والمسغبة مفعلة منه ، وأنشد أبو عبيدة :
فلو كنت حرّا يا ابن قيس بن عاصم |
|
لما بتّ شبعانا وجارك ساغبا |
قال النخعي (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي : عزيز فيه الطعام (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي : قرابة ، يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي ، واليتيم في الأصل : الضعيف ، يقال : يتم الرجل : إذا ضعف ، واليتيم عند أهل اللغة : من لا أب له ، وقيل : هو من لا أب له ولا أمّ ، ومنه قول قيس بن المللوّح :
إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا |
|
إلى الله فقد الوالدين يتيم |
(أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي : لا شيء ؛ له كأنه لصق بالتراب لفقره ، وليس له مأوى إلا التراب ، يقال : ترب الرجل يترب تربا ومتربة : إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرّا. قال مجاهد : هو الّذي لا يقيه
__________________
(١). القيامة : ٣١.