أي : وجدك فقيرا لا مال لك فأغناك ، يقال : عال الرجل يعيل عيلة ؛ إذا افتقر ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :
فما يدري الفقير متى غناه |
|
وما يدري الغنيّ متى يعيل |
أي : يفتقر. قال الكلبي : (فَأَغْنى) أي : رضّاك بما أعطاك من الرزق ، واختار هذا الفراء ، قال : لأنه لم يكن غنيا من كثرة ، ولكن الله سبحانه رضّاه بما آتاه ، وذلك حقيقة الغنى. وقال الأخفش : (عائِلاً) ذا عيال ، ومنه قول جرير :
الله أنزل في الكتاب فريضة |
|
لابن السّبيل وللفقير العائل |
وقيل : فأغنى بما فتح لك من الفتوح ، وفيه نظر ؛ لأن السورة مكية ، وقيل : بمال خديجة بنت خويلد ، وقيل : وجدك فقيرا من الحجج والبراهين فأغناك بها. قرأ الجمهور : «عائلا» وقرأ محمد بن السّميقع واليماني «عيّلا» بكسر الياء المشدّدة كسيد.
ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي : لا تقهره بوجه من وجوه القهر كائنا ما كان. قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما. قال الأخفش : لا تسلط عليه بالظلم ، ادفع إليه حقّه ، واذكر يتمك. قال الفرّاء والزّجّاج : لا تقهره على ماله فتذهب بحقّه لضعفه ، وكذا كانت العرب تفعل في حقّ اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحسن إلى اليتيم ويبرّه ويوصي باليتامى. قرأ الجمهور : «فلا تقهر» بالقاف ، وقرأ ابن مسعود والنّخعي والشعبيّ والأشهب العقيلي : «تكهر» بالكاف ، والعرب تعاقب بين القاف والكاف. قال النحاس : إنما يقال كهره ؛ إذا اشتدّ عليه وغلظ. وقيل : القهر : الغلبة ، والكهر : الزجر. قال أبو حيان : هي لغة ، يعني قراءة الكاف مثل قراءة الجمهور ، واليتيم منصوب بتقهر. (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) يقال : نهره وانتهره ؛ إذا استقبله بكلام يزجره ، فهو نهي عن زجر السائل والإغلاظ له ، ولكن يبذل اليسير أو يردّه بالجميل. قال الواحدي : قال المفسرون : يريد السائل على الباب ، يقول : لا تنهره إذا سألك فقد كنت فقيرا ، فإما أن تطعمه ، وإما أن تردّه ردّا لينا. قال قتادة : معناه ردّ السائل برحمة ولين. وقيل : المراد بالسائل الّذي يسأل عن الدين ، فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجبه برفق ولين ، كذا قال سفيان ، والسائل منصوب بتنهر ، والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم ولا تنهر السائل (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أمره سبحانه بالتحدّث بنعم الله عليه وإظهارها للناس وإشهارها بينهم ، والظاهر النعمة على العموم من غير تخصيص بفرد من أفرادها أو نوع من أنواعها. وقال مجاهد والكلبي : المراد بالنعمة هنا القرآن. قال الكلبي : وكان القرآن أعظم ما أنعم الله بن عليه فأمره أن يقرأه. قال الفراء : وكان يقرؤه ويحدّث به. وقال مجاهد أيضا : المراد بالنعمة النبوّة التي أعطاه الله ، واختار هذا الزجاج فقال : أي بلغ ما أرسلت به وحدّث بالنبوّة التي آتاك الله ، وهي أجلّ النعم. وقال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدى بعد الضلالة وجبر اليتم ، والإغناء بعد العيلة فاشكر هذه النعم. والتحدث بنعمة الله شكر ، والجارّ والمجرور متعلق بحدّث ، والفاء غير مانعة من تعلقه به ، وهذه