جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية. قال الفراء : سمعت رجلا يقول : التين : جبال حلوان إلى همدان ، والزيتون : جبال الشام. هب أنك سمعت هذا الرجل ، فكان ماذا؟ فليس بمثل هذا تثبيت اللغة ، ولا هو نقل عن الشارع. وقال محمد بن كعب : التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد إيلياء ، وقيل : إنه على حذف مضاف ، أي : ومنابت التين والزيتون. قال النحّاس : لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوّز خلافه. (وَطُورِ سِينِينَ) هو الجبل الّذي كلّم الله عليه موسى اسمه الطور ، ومعنى سينين : المبارك الحسن بلغة الحبشة ، قاله قتادة. وقال مجاهد : هو المبارك بالسريانية. وقال مجاهد والكلبي : سينين : كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النّبط. قال الأخفش : طور : جبل ، وسينين : شجر ، واحدته سينينية. قال أبو علي الفارسي : سينين فعليل ، فكرّرت اللام التي هي نون فيه ، ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء لأنه جعل اسما للبقعة ، وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام ، وهي الأرض المقدسة كما في قوله : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) (١) وأعظم بركة حلّت به ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه. قرأ الجمهور : (سِينِينَ) بكسر السين ، وقرأ ابن إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء بفتحها ، وهي لغة بكر وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود والحسن وطلحة (سَيْناءَ) بالكسر والمدّ. (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) يعني مكة ، سمّاه أمينا لأنه آمن كما قال : (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (٢) يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين. قال الفراء وغيره : الأمين بمعنى الآمن ، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول من أمنه ؛ لأنه مأمون الغوائل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا جواب القسم ، أي : خلقنا جنس الإنسان كائنا في أحسن تقويم وتعديل. قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله خلق كل ذي روح مكبّا على وجهه إلا الإنسان ، خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده ، ومعنى التقويم : التعديل ، يقال : قوّمته فاستقام. قال القرطبي : هو اعتداله واستواء شأنه ، كذا قال عامة المفسرين. قال ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيا عالما قادرا مريدا متكلّما سميعا بصيرا مدبّرا حكيما ، وهذه صفات الرب سبحانه ، وعليها جعل بعض العلماء قوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله خلق آدم على صورته» يعني على صفاته التي تقدم ذكرها. قلت : وينبغي أن يضمّ إلى كلامه هذا قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) وقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٤) ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق وعجيب الصنع فلينظر في كتاب «العبر والاعتبار» للجاحظ ، وفي الكتاب الّذي عقده النيسابوري على قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥) وهو في مجلدين ضخمين. (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : رددناه إلى أرذل العمر ، وهو الهرم والضعف بعد الشباب والقوّة حتى يصير كالصبيّ فيخرف وينقص عقله ، كذا قال جماعة من المفسرين. قال الواحدي : والسافلون : هم الضعفاء والزمناء والأطفال ، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا.
__________________
(١). الإسراء : ١.
(٢). العنكبوت : ٦٧.
(٣). الشورى : ١١.
(٤). طه : ١١٠.
(٥). الذاريات : ٢١.