وقال الحسن : معنى ألهاكم : أنساكم (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي : حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال. وقال قتادة : إن التكاثر : التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك : ألهاكم التشاغل بالمعاش. وقال مقاتل وقتادة أيضا وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا. وقال الكلبي : نزلت في حيّين من قريش : بني عبد مناف ، وبني سهم ، تعادّوا وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حيّ منهم : نحن أكثر سيدا ، وأعزّ عزيزا ، وأعظم نفرا ، وأكثر قائدا ، فكثر بنو عبد مناف بني سهم ، ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم سهم ، فنزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) فلم ترضوا (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) مفتخرين بالأموات. وقيل : نزلت في حيّين من الأنصار. والمقابر : جمع مقبرة بفتح الباء وضمها. وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة من الخصال المذمومة. وقال سبحانه (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ولم يقل عن كذا ، بل أطلقه لأن الإطلاق أبلغ في الذمّ ، لأنه يذهب الوهم فيه كلّ مذهب ، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام ، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، كما تقرّر في علم البيان ؛ والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كلّ شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله والعمل للآخرة ، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الّذي يزوره هذا على قول من قال : إن معنى (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) متم ، وأما على قول من قال : إن معنى (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ذكرتم الموتى وعدّدتموهم للمفاخرة والمكاثرة ، فيكون ذلك على طريق التهكم بهم ، وقيل : إنهم كانوا يزورون المقابر ، فيقولون هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ردع وزجر لهم عن التكاثر وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة وفيه وعيد شديد. قال الفرّاء : أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر ، ثم كرّر الردع والزجر والوعيد فقال : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل ، وقيل : الأوّل عند الموت أو في القبر ، والثاني يوم القيامة. قال الفرّاء : هذا التكرار على وجه التغليظ والتأكيد. قال مجاهد : هو وعيد بعد وعيد. وكذا قال الحسن ومجاهد (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لو تعلمون الأمر الّذي أنتم صائرون إليه علما يقينا كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا ، وجواب لو محذوف ، أي : لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر ، أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه ، وكلا في هذا الموضع الثالث للزجر والرّدع كالموضعين الأوّلين. وقال الفرّاء : هي بمعنى حقا ، وقيل : هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا. قال قتادة : اليقين هنا الموت ، وروى عنه أيضا أنه قال : هو البعث. قال الأخفش : التقدير لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم ، وقوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جواب قسم محذوف ، وفيه زيادة وعيد وتهديد ، أي : والله لترون الجحيم في الآخرة. قال الرازي : وليس هذا جواب لو ؛ لأن جواب لو يكون منفيا ، وهذا مثبت ولأنه عطف عليه (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) وهو مستقبل لا بدّ من وقوعه ، قال : وحذف جواب «لو» كثير ، والخطاب للكفار ، وقيل : عام كقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١) قرأ الجمهور : (لَتَرَوُنَ) بفتح التاء مبنيا للفاعل ، وقرأ الكسائي وابن عامر بضمها مبنيا
__________________
(١). مريم : ٧١.