بسبب التقوى ، والترجي باعتبار المخاطبين ، أي : راجين أن ترحموا ، وفي هذه الآية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرّر بغيها على الإمام ، أو على أحد من المسلمين ، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز مستدلّا بقوله صلىاللهعليهوسلم : «قتال المسلم كفر» فإن المراد بهذا الحديث وما ورد في معناه قتال المسلم الّذي لم يبغ. قال ابن جرير : لو كان الواجب في كلّ اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حقّ ، ولا أبطل باطل ولوجد أهل النفاق والفجور سببا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ، وسبي نسائهم ، وسفك دمائهم بأن يتحزّبوا عليهم ، ولكفّ المسلمين أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله صلىاللهعليهوسلم : «خذوا على أيدي سفهائكم». قال ابن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، وعمدة في حرب المتأوّلين ، وعليها عوّل الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملّة ، وإياها عنى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بقوله : «تقتل عمارا الفئة الباغية» ، وقوله صلىاللهعليهوسلم في شأن الخوارج : «يخرجون على حين فرقة من الناس ، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ». (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) السخرية : الاستهزاء. وحكى أبو زيد : سخرت به وضحكت به وهزأت به. وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزئت منه وهزئت به ، كل ذلك يقال : والاسم السخرية والسّخرى ، وقرئ بهما في : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (١) ، ومعنى الآية : النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض ، وعلّل هذا النهي بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي : أن يكون المسخور بهم عند الله خيرا من الساخرين بهم ، ولما كان لفظ قوم مختصّا بالرجال ، لأنهم القوّم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) أي : ولا يسخر نساء من نساء (عَسى أَنْ يَكُنَ) المسخور بهن (خَيْراً مِنْهُنَ) يعني خيرا من الساخرات منهنّ ، وقيل : أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهنّ أكثر (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) اللمز : العيب ، وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) (٢) قال ابن جرير : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، ومعنى : (لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) لا يلمز بعضكم بعضا ، كما في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣) وقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) (٤) قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) التنابز : التفاعل من النّبز بالتسكين وهو المصدر ، والنّبز بالتحريك اللقب ، والجمع أنباز ، والألقاب جمع لقب ، وهو اسم غير الّذي سمّي به الإنسان ، والمراد هنا لقب السوء ، والتنابز بالألقاب بأن يلقب بعضهم بعضا. قال الواحدي : قال المفسرون : هو أن يقول لأخيه المسلم : يا فاسق ، يا منافق. أو يقول لمن أسلم : يا يهودي ، يا نصراني ، قال عطاء : هو كلّ شيء أخرجت به أخاك من الإسلام ، كقولك يا كلب ، يا حمار ، يا خنزير. قال الحسن ومجاهد : كان الرجل يعيّر بكفره ، فيقال له : يا يهودي يا نصراني ، فنزلت ، وبه قال قتادة وأبو العالية وعكرمة (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي : بئس الاسم الّذي
__________________
(١). الزخرف : ٣٢.
(٢). التوبة : ٥٨.
(٣). النساء : ٢٩.
(٤). النور : ٦١.