ذلك إلزاما للحجة وتوكيدا للأمر. قال الحسن وقتادة ومجاهد : المتلقيان : ملكان يتلقيان عملك أحد هما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. وقال مجاهد أيضا : وكل الله بالإنسان ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) إنما قال قعيد ولم يقل قعيدان وهما اثنان ، لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد. فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه ، كذا قال سيبويه ، كقول الشاعر (١) :
نحن بما عندنا وأنت بما |
|
عندك راض والرّأي مختلف |
وقول الفرزدق :
وأبي فكان وكنت غير غدور (٢)
أي : وكان غير غدور وكنت غير غدور ، وقال الأخفش والفراء : إن لفظ قعيد يصلح للواحد والاثنين والجمع ، ولا يحتاج إلى تقدير في الأوّل. قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة والنحو : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، والقعيد : المقاعد كالجليس بمعنى المجالس (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي : ما يتكلم من كلام ، فيلفظه ويرميه من فيه إلّا لديه ، أي : على ذلك اللافظ رقيب ، أي : ملك يرقب قوله ويكتبه ، والرقيب : الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الّذي يكتب ما يقوله من خير وشرّ ، فكاتب الخير هو ملك اليمين ، وكاتب الشرّ ملك الشمال. والعتيد : الحاضر المهيّأ. قال الجوهري : العتيد : الحاضر المهيأ ، يقال : عتّده تعتيدا وأعتده إعتادا ، أي : أعدّه ، ومنه : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) (٣) والمراد هنا أنه معدّ للكتابة مهيّأ لها (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) لما بين سبحانه أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت ، والمراد بسكرة الموت شدّته وغمرته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله ، ومعنى بالحق : أنه عند الموت يتضح له الحق ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد ، وقيل : الحق هو الموت ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : وجاءت سكرة الموت بالحق ، وكذا قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود. والسكرة : هي الحق ، فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين ، وقيل : الباء للملابسة كالتي في قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (٤) أي : متلبسة بالحق ، أي : بحقيقة الحال ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الموت ، والحيد : الميل ، أي : ذلك الموت الّذي كنت تميل عنه وتفرّ منه ، يقال : حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة ؛ مال عنه وعدل ، ومنه قول طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته |
|
وحدت كما حاد البعير عن الدّحض |
__________________
(١). هو قيس بن الخطيم.
(٢). وصدره : إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى.
(٣). يوسف : ٣١.
(٤). المؤمنون : ٢٠.