ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء ـ قبل البلوغ ؛ لوجهين :
أحدهما : أن يبتلي الأيتام قبل بلوغهم بأنواع العبادات والآداب ؛ ليعتادوا بها ويتأدبوا ؛ ليعرفوا حقوق الأموال وقدرها ، ويحفظوها إذا بلغوا ؛ لأنهم إذا ابتلوا بعد البلوغ لم يعرفوا ما عليهم من العبادات والفرائض وقت البلوغ ، وكان في ذلك تضييع حقوق الله وفرائضه ؛ إذ لا سبيل لهم إلى القيام بها حتى البلوغ ، فأمر الأولياء والأوصياء أن يبتلوهم قبل البلوغ ، حتى إذا بلغوا ، بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق ، حافظين لها ؛ ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب أنه يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع ، وأمر بالضرب والتأديب (١) إذا كان ابن تسع و ، بالتفريق في المضاجع (٢) ، وهو من حقوق الخلق؟! فهذا ليعتادوا ، ويأخذوا الأدب قبل البلوغ ، حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم ، وهان القيام بها ، وإذا لم يعوّدوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق ؛ فعلى ذلك الأول.
ووجه آخر : أن يبتلي عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها ، ويتقلبون فيها ؛ لينظروا : هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة في حال الصغر ؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة.
وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو ـ أيضا ـ يحتمل وجهين :
يحتمل العلم بها نفسه ؛ ويحتمل العمل بها والعلم ، ولا يضعوها في غير موضعها.
وقوله : «إن حرف (حَتَّى) صلة» : إنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة ، لجاز لغيره أن يجعل الرشد صلة فيه ؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة.
ثم اختلف في قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)
قال بعضهم : هو أن يصير هو من أهل الشهادة ؛ فحينئذ يدفع إليه المال ؛ فعلى قوله يجىء أن ينتزع الأموال من أيدي الفساق ؛ لأنه لا شهادة لهم ؛ ومن قوله : إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد (٣) منه ، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان الكافر لا يدفع إليه عنده ؛ لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد ؛ دل أن
__________________
(١) في ب : التأدب.
(٢) ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «مروا أولادكم بالصلاة ، وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع». أخرجه أحمد (٢ / ١٨٧) ، وأبو داود (١ / ٣٣٣) كتاب الصلاة : باب متى يؤمر الغلام بالصلاة ، رقم (٤٩٥ ، ٤٩٦) ، والحاكم في المستدرك (١ / ١٩٧).
(٣) الرشد : نقيض الغي ؛ يقال : رشد الإنسان ، يرشد رشدا ـ وهو نقيض الضلال ـ : إذا أصاب وجه الأمر والطريق. ينظر : لسان العرب (٣ / ١٦٤٩) (رشد).