قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣)
وقوله ـ عزوجل ـ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) :
هو على الإضمار (١) ـ والله أعلم ـ كأنه قال : حرم عليكم أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير ... إلى آخر ما ذكر ؛ ألا ترى أنه قال : يجوز الانتفاع بصوف الميتة وبعظمها ؛ دل أنه على الإضمار : إضمار «أكل» ، وأما الانتفاع بجلدها لا يجوز إلا بعد الدباغ (٢) ؛
__________________
ـ الكاف والميم ، ويكون قوله : (أَنْ تَعْتَدُوا) على إسقاط حرف الخفض ـ وهو «على» ـ أي : ولا يحملنكم بغضكم لقوم على اعتدائكم عليهم ؛ فيجىء في محل «أن» الخلاف المشهور ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة. ومعناه ـ عند أبي عبيد والفراء ـ : كسب ، ومنه : «فلان جريمة أهله» أي : كاسبهم ، وعن الكسائي ـ أيضا ـ : أن «جرم» و «أجرم» بمعنى كسب غيره ؛ وعلى هذا فيحتمل وجهين :
أحدهما : أنه متعد لواحد.
والثاني : أنه متعد لاثنين ؛ كما أن «كسب» كذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا متعديا لاثنين : أولهما : ضمير الخطاب ، والثاني : «أن تعتدوا» أي : لا يكسبنكم بغضكم لقوم الاعتداء عليهم.
وقرأ عبد الله : «يجرمنكم» بضم الياء من «أجرم» رباعيّا ، وقيل : هو بمعنى «جرم» ؛ كما تقدم نقله عن الكسائي. وقيل : «أجرم» منقول من «جرم» بهمزة التعدية. قال الزمخشري : «جرم» يجرى مجرى «كسب» في تعديته إلى مفعول واحد وإلى اثنين ؛ تقول : «جرم ذنبا» نحو : كسبه ، وجرمته ذنبا : أي : كسبته إياه ، ويقال : أجرمته ذنبا ؛ على نقل المتعدى إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين ؛ كقولك : «أكسبته ذنبا» ، وعليه قراءة عبد الله : «ولا يجرمنكم» ، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين ، والثاني : «أن تعتدوا». انتهى.
وأصل هذه المادة ـ كما قال ابن عيسى الرماني ـ القطع : ف «جرم» ؛ «حمل على الشيء» ؛ لقطعه عن غيره ، و «جرم» : «كسب» ؛ لانقطاعه إلى الكسب ، و «جرم» : بمعنى «حق» ؛ لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل : «لا جرم أن لهم النار» ، أي : لقد حق ؛ هكذا قاله الرماني ؛ فجعل بين هذه الألفاظ قدرا مشتركا ، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي. ينظر الدر المصون (٢ / ٤٨٢).
(١) في أ : الإظهار.
(٢) الدبغ : نزع فضول الجلد : وهي مائيته ورطوباته التي يفسده بقاؤها ، ويطيبه نزعها ؛ بحيث لو نقع في الماء لم يعد إليه النتن والفساد.
واختلفوا في طهارة جلود الميتة بالدباغة على التفصيل التالى :
ذهب الحنفية والشافعية ـ وهو رواية عن أحمد في جلد ميتة مأكول اللحم ـ إلى أن الدباغة وسيلة لتطهير جلود الميتة ، سواء أكانت مأكولة اللحم أم غير مأكولة اللحم ؛ فيطهر بالدباغ جلد ميتة سائر الحيوانات إلا جلد الخنزير عند الجميع ؛ لنجاسة عينه ، وإلا جلد الآدمي ؛ لكرامته ؛ ـ