وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : ولم يبين ما الفتنة التي حسبوا ألا تكون ، فأهل التأويل اختلفوا فيها :
قال قائلون : الفتنة : المحنة التي فيها الشدة ، حسبوا ألا يأتيهم الرسل بامتحانهم على خلاف هواهم ، بل جاءتهم الرسل ؛ ليمتحنوا على خلاف ما أحدثوا من هوى أنفسهم.
وقال بعضهم : قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : أي : هلاك وعذاب بتكذيبهم الرسل ، وقصدهم قصد قتلهم.
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «ألا يكون شرك» (١).
وقيل : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : أي : حسبوا ألا يبتلوا بتكذيبهم الرسل ، وبقتلهم الأنبياء بالبلاء والقحط ، فعموا عن الهدى ، فلم يبصروه ، وصموا عن الهدى فلم يسمعوه ؛ لما لم ينتفعوا به ، ثم تاب الله عليهم فرفع عنهم البلاء ، فلم يتوبوا بعد رفع البلاء (٢).
ويحتمل أن يكون قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) : ما ذكره في آية أخرى : وهو قوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) إلى قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ...) الآية [الإسراء : ٤ ـ ٦] ؛ تابوا مرة ثم رجعوا ثم تابوا ؛ فذلك قوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا ....) الآية.
قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ
__________________
(١) أخرجه ابن جرير (٤ / ٦٥١) ، (١٢٢٩٤).
(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٤ / ٦٥١) ، (١٢٢٩١) عن قتادة ، (١٢٢٩٢) عن السدي ، (١٢٢٩٣) عن الحسن ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٣١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن ، ولعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.