(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
يحتمل النهي عن القعود معهم وجهين.
[أحدهما] : نهى هؤلاء عن القعود معهم لما كان أهل النفاق يجالسونهم ، ويستهزءون بالآيات ويكفرون بها ، فنهى هؤلاء عن ذلك ؛ ليرتدع أهل النفاق عن مجالستهم.
والثاني : أنه نهى المؤمنين عن مجالستهم ؛ ليمتنعوا عن صنيعهم حياء منهم ؛ لأنهم لو امتنعوا عن مجالستهم فيمنعهم ذلك عن الاستهزاء بها والكفر بها ، لما كانوا يرغبون في مجالسة المؤمنين ، فيتذكرون عند قيامهم عنهم ، فيتقون الخوض والاستهزاء ، ولا يخافون أن يعرفوا في الناس بترك مجالستهم المؤمنين ، فيحملهم ذلك على الكف عن الاستهزاء بالآيات وبرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي : وذر الذين اتخذوا لعبا ولهوا دينا ؛ على التقديم والتأخير (١).
والثاني (٢) : اتخذوا اللعب واللهو دينهم ؛ حتى لا يفارقوا اللعب واللهو ؛ لأن الدين إنما يتخذ للأبد ، فعلى ذلك اتخذ أولئك اللعب واللهو للأبد كالدين.
ثم هو يخرج على وجوه :
أحدها : اتخذوا دينهم عبادة ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يبصر ولا يسمع ولا يعلم ، ومن عبد من (٣) هذا وصفه ، واتخذ ذلك دينا ـ فهو عابث لاعب.
والثاني : اتخذوا دينهم ما هوته أنفسهم ، ودعتهم الشياطين إليه ، ومن اتخذ دينه بهوى نفسه ، وما دعته نفسه إليه ـ فهو عابث لاعب.
والثالث : صار دينهم لعبا وعبثا ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ، ومن لم يقصد بدينه الذي دان به عاقبة فهو عابث مبطل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
__________________
(١) التقديم : من قدم الشيء أي وضعه أمام غيره ، والتأخير نقيض ذلك. وقد عرف الزركشي التقديم والتأخير في كتابه (البرهان في علوم القرآن) فقال : (هو أحد أساليب البلاغة ، فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة وملكتهم في الكلام وانقياده لهم ، وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق).
واختلف علماء البلاغة في هذا الفن البلاغي ، فمنهم من عده من المجاز ؛ لأنه تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول ، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل. ولكن خالفهم الزركشي فقال : (والصحيح أنه ليس منه ، فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع).
ينظر المعجم المفصل في علوم البلاغة ص (٤١١ ، ٤١٢).
(٢) في ب : الثاني.
(٣) في أ. عندهن.