يجعلون المشيئة في ذلك إلى أنفسهم دون الله ، والله أخبر أنه يرفع درجات من يشاء وهم يقولون : لا يقدر أن يرفع ، بل هم يملكون أن يرفعوا درجات أنفسهم ؛ فدلت الآية على أن من نال درجة أو فضيلة إنما ينال بفضل الله ومنّه.
ثم قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) : تحتمل الدرجات وجوها.
تحتمل : النبوة ، وتحتمل : الدرجات في الآخرة أن يرفع لهم.
وتحتمل : الذكر والشرف في الدنيا لما يذكرون في الملأ من الخلق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
أي : حكيم في خلق الخلائق ، خلق خلقا يدل على وحدانيته ، ويدل على أنه مدبر ليس بمبطل في خلقهم ، ثم عليم بأعمالهم وعليم بمصالح الخلق وبما يصلح لهم ، [وبما لا يصلح](١) والحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير.
قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧)
قوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ).
يحتمل ما ذكرنا من رفع الدرجات ما ذكر من [هبة](٢) هؤلاء.
وفيه دليل أن ما يكون له من الفضل في هبة (٣) أولاده يكون ذلك في أولاد أولاده.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في ب : هيبة.
(٣) الهبة لغة مأخوذة من وهب يقال : وهب يهب وهبا وهبة ، والاسم : الموهب والموهبة ، ولا يقال وهبكه ، هذا قول سيبويه وحكى السيرافي عن أبي عمرو أنه سمع أعرابيا يقول لآخر : انطلق معي أهبك نبلا.
ووهبت له هبة وموهبة ووهبا إذا أعطيته ، ووهب الله له الشيء ، فهو يهب هبة ، وتواهب الناس بينهم ، أي يهب بعضهم بعضا ، وهي في الأصل مصدر محذوف الأول عوض عنه هاء التأنيث ، فأصلها : وهب بتسكين الهاء وتحريكها.
ومما تقدم من اشتقاق للفظ الهبة ، يتبين لي أنها تطلق في اللغة على التبرع والتفضل بما ينفع الموهوب له مطلقا على سواء أكان مالا أو غير مال.
فالهبة : العطية الخالية عن الأعواض والأغراض ، فإذا كثرت سمي صاحبها وهابا.
واصطلاحا :
عرفها الأحناف بأنها : تمليك بلا عوض.
وعرفها الشافعية بأنها : التمليك بلا عوض.