سورة الأنعام معجزة ؛ لأنها نزلت في محاجة أهل الشرك في إثبات التوحيد والألوهية لله والبعث ، فكيف يكون وقد جعل الله القرآن آية معجزة عجز البشر عن إتيان مثله (١) ،
__________________
(١) قال الله سبحانه وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء : ٨٨] فيهم العرب العاربة ، وأرباب البيان وتعاونوا (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨] في بلاغته وحسن نظمه.
وقوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)[الإسراء : ٨٨] جواب قسم محذوف (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)[الإسراء : ٨٨] معينا على الإتيان بمثله ، ولم تندرج الملائكة في الفريقين مع عجزهم أيضا ، لأنهما هما المتحدون به. ومن ثم تعجبت الجن من حسن نظمه وبلاغته البالغة أقصى درجاتها فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ)[الجن : ١ ـ ٢].
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ـ وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله عزوجل إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» رواه الشيخان.
قال الحافظ ابن حجر رحمهالله تعالى : قوله : ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطى ... هذا دال على أن النبي صلىاللهعليهوسلم لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها. ولا يضره من أصر على المعاندة.
قال ابن قرقول : «من» الأولى بيانية والثانية زائدة ، وما موصولة أو نكرة موصوفة بما بعدها وقعت مفعولا ثانيا ل «أعطى» ، و «مثله» مبتدأ و «آمن» خبره. والجملة صفة للنكرة أو صلة الموصول. والراجع إلى الموصول : الضمير المجرور في عليه ، أي : مغلوبا عليه في التحدي والمباراة. والمراد بالآيات : المعجزات. وموقع المثل هنا موقعه في قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)[البقرة : ٢٣] أي : مما هو على صفته في البيان الغريب ، وعلو الطبقة في حسن النظم. والمثل يطلق ويراد به عين الشيء أو ما يساويه ، والمعنى ليس نبي من الأنبياء إلا قد أعطاه الله من المعجزات الدالة على نبوته الشيء الذي من صفته أنه إذا شوهد اضطر المشاهد إلى الإيمان به ، وتحريره أن كل نبي اختص بما يثبت دعواه من خوارق العادات بحسب زمانه ، فخص كل نبي بما ثبت له من خوارق العادات المناسبة لحال قومه ، كقلب العصا ثعبانا في زمن موسى وكونها تلقف ما صنعوا. وإخراج اليد بيضاء. وإنما كان كذلك لأن الغالب في زمانه السحر فأتاهم بما هو فوقه ، فاضطرهم إلى الإيمان به ولم يقع ذلك لغيره.
وفي زمن عيسى صلىاللهعليهوسلم كان الغالب الطب فجاءهم بما هو أعلى منه : في إبراء الأكمه والأبرص بل بما ليس في قدرة البشر وهو إحياء الميت.
وأما النبي صلىاللهعليهوسلم فأرسله الله من العرب أهل الفصاحة والبلاغة وتأليف الكلام على أعلى طبقاتها ومحاسن بدائعها ، فأتاهم بالقرآن فأعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة منه.
وقوله : آمن ، وقع في رواية حكاها ابن قرقول : أومن ـ بضم الهمزة ثم واو ـ وقوله (عليه) : بمعنى اللام أو الباء الموحدة. والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة ، أي : يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه ، لكن قد يخذل فيعاند كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً)[النمل : ١٤].
وقال الطيبي رحمهالله تعالى : المجرور في «عليه» حال أي : مغلوبا عليه في التحدي وموقع المثل موقعه من قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي : على صفته من البيان وعلو الطبقة في البلاغة ، وقوله : «وإنما كان الذي أوتيته وحيا ... إلى آخره» معناه : معظم الذي أوتيته ، وإلا فقد أوتي من المعجزات ما لا ينحصر. والمراد به القرآن ، وأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر إلى يوم القيامة ، ولبلوغه أعلى طبقات البلاغة ، وأقصى آيات الإعجاز ، فلا يتأتى لأحد أن يأتي بأقصر سورة منه لجزالة تراكيبه ، وفخامة ترتيبه الخارج عن طوق البشر ، وليس المراد حصر معجزاته فيه. ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه ؛ بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون ـ