__________________
ـ وتقرير الآية على الأول قالوا الرؤية تمدح الله بنفيها ، وكل ما تمدح الله بنفيه فثبوته له تعالى نقص ، فثبوت الرؤية له تعالى نقص.
أما الصغرى فلأنه لا معنى لإدراك الأبصار إلا الرؤية أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما وإثبات الآخر وإذا كان نفي إدراك الأبصار له تعالى مدحا كان نفي الرؤية عنه كذلك ، وأما بيان التمدح فلأن هذه الآية قد ذكرت في ثنايا المدائح حيث يقول المولى سبحانه وتعالى في محكم كتابه (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام : ١٠١ ـ ١٠٣] وليس من المعقول أن يكون ما قبل الآية الكريمة وما بعدها للمدح وهي لا تكون كذلك فوجب أن تكون هي كذلك وإلا لوقع أثناء المدائح ما ليس بمدح وهو معيب غير لائق بكلام البشر فكيف يكون في كلام الله الذي بلغ حد الإعجاز وأما الكبرى : (كل ما تمدح الله بنفيه فثبوته له نقص) فلأنه إذا ثبت أن نفي الإدراك له تعالى مدح كان نقيضه أعني ثبوت إدراك الأبصار له تعالى نقصا لأن ما كان من الصفات عدمه مدحا كان ثبوته نقصا وقد تمدح بنفي الرؤية وأما الأفعال فثبوتها ونفيها كمال له تعالى كالعفو والانتقام فإن الأول فضل والثاني عدل وكلاهما كمال.
وأجيب من قبل أهل السنة أولا بالمنع وثانيا بالمعارضة ، أما الجواب بالمنع فيقال في شأنه : لا نسلم التمدح بنفي الرؤية المطلقة في هذه الآية كما تزعمون ؛ بل التمدح بنوع خاص منها وهو الرؤية على وجه الإحاطة يدل لذلك تفسير ابن عباس رضي الله عنه ففي الدر المنثور وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا يحيط به بصر أحد : فالإدراك المضاف إلى البصر ليس هو الرؤية المطلقة بل أخص منها ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم.
وإنما لم يكن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية المطلقة لأن الإدراك حقيقته اللحوق والبلوغ سواء كان في المكان كما قال أصحاب موسى عليهالسلام (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء : ٦١] أي ملحقون ، أو في الزمان كما يقال أدركت قتادة والحسن ، أو في صفته وحاله كما يقال أدرك الغلام أي بلغ الحلم وأدركت الثمرة أي نضجت وإذا كان حقيقة في اللحوق فلا يكون حقيقة في الرؤية وإلا لزم الاشتراك الذي هو خلاف الأصل ، بل الإدراك مجاز عن الرؤية المخصوصة المتكيفة بكيفية الإحاطة لأنها أقرب إلى حقيقته لما فيها من توهم معنى اللحوق كأن البصر قطع المسافة التي بينه وبين الشيء حتى بلغه ووصل إليه.
وأما إبصار الشيء الذي ليس فيه جهة أصلا فإنه لا يتحقق فيه معنى البلوغ فلا يسمى إدراكا.
ثم اشتهر في هذا المعنى حتى صار حقيقة عرفية كما يؤخذ من المقاصد وغيرها.
وأما الجواب بالمعارضة فيقال فيها :
الرؤية تمدح الله بنفيها في الآية الكريمة وكل ما تمدح الله بنفيه فهو جائز فالرؤية جائزة.
أما بيان الصغرى فلما تقدم من وقوعها أثناء المدائح وأما دليل الكبرى فيذكر في شأنه أن التمدح بعدم الرؤية للتعزز والاحتجاب بحجاب الكبرياء مع إمكان الرؤية كما يتمدح بذلك الملوك لا أنها ممتنعة إذ لو كانت ممتنعة للزم أن يكون المعدوم ممدوحا بعدم الرؤية.
ولا يقال من قبل المعتزلة : عدم مدح المعدوم ينفي الرؤية عنه لعرائه من أصل المدح وهو الوجود واشتماله على كل نقص وهو العدم لأن الحق أن امتناع الشيء لا يمنع التمدح بنفيه إذ قد ورد التمدح بنفي شريك الباري وبنفي اتخاذ الولد مع امتناعها في حقه تعالى فليس بشيء ؛
إذ التمدح بخصوصية عدم الرؤية منحصر في الظاهر في التعزز والاحتجاب بحجاب الكبرياء مع ـ