__________________
ـ إمكان الرؤية ولهذا لم يكن أعظم الملوك ممدوحا بعدم الرؤية في البلاد البعيدة وإذا كان الظاهر ذلك ثبت أن التمدح بعدم الرؤية يدل على إمكانها لا على امتناعها وهو المطلوب.
إلى هنا تم الكلام من تقرير الآية على الوجه الأول وأعني استحالة الرؤية مع الرد عليه ، ولنشرع في تقريرها على الوجه الثاني الدال على نفي الوقوع ، فقد قالوا في تقريرها : الرؤية إدراك البصر ولا شيء مع إدراك البصر يتعلق به تعالى ينتج لا شيء من الرؤية يتعلق به تعالى.
أما الصغرى : فلأنه لا معنى للإدراك المضاف إلى الأبصار إلا الرؤية إذ معنى قولك أدركته ببصري معنى رأيته لا فرق بينهما إلا في اللفظ إذ هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما وإثبات الآخر فلا يقال أدركته وما رأيته ولا العكس كما مر.
وأما الكبرى : فالآية الكريمة وردت بنفي إدراك الأبصار له تعالى وذلك يتناول نفي الرؤية لجميع الأبصار في جميع الأوقات ، يدل على الأول ورود الأبصار باللام الاستغراقية المفيدة للعموم في مقام المبالغة فتكون سالبة كليته.
وعلى الثاني : إن قولنا تدركه الأبصار يناقض (لا تدركه الأبصار) بدليل استعمال كل منها في تكذيب الآخر ، ولا معنى للنقيض إلا هذا ولا شك أن قولك تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده نقيضه وهو (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فلا يراه شيء من الأبصار في الدنيا والآخرة.
وأجيب عن الصغرى : أولا بالمنع فقال أهل السنة لا نسلم أن الإدراك المضاف إلى البصر هو الرؤية المطلقة والقول بذلك كلام ظاهري خال عن التحقيق يترتب عليه إبطال النصوص السمعية الصحيحة بل الإدراك للشيء تارة يطلق بمعنى اللحوق به والوصول إليه ومن هذا قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : ٤٠] وأخرى بمعنى الإحاطة من جميع جوانبه والعلم بكنهه والمعنى على هذا أنه لا تدرك الأبصار كنهه ولا تحيط به (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي يحيط بها علما. فظهر أن الإدراك غير الرؤية فتتحقق هي بدونه فيصح أن يقال : رأيته وما أدركته أي عاينته وما أدركت كنهه وحقيقته ، وتقول رأيت السماء وما أدركتها أي أدركت كنهها فنفي الإدراك المأخوذ في قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) المراد منه نفي الإحاطة والانحصار لاستحالة الحدود والنهايات والوقوف على حقيقته تعالى وهو بهذا المعنى أخص من الرؤية المطلقة وإلا لزم الاشتراك وهو خلاف الأصل ، نعم قد يكون الإدراك مجازا عن الرؤية المطلقة ولكن المراد منه هنا المعنى الحقيقي وهو الرؤية المخصوصة لا المعنى المجازي وهو الرؤية المطلقة.
ثانيا : بمنع الكبرى القائلة (لا شيء من إدراك البصر يتعلق به تعالى) ، بمنع دليلها : وذلك أن الآية التي جعلت دليلا لها كما تحتمل أن تكون من عموم السلب وذلك بملاحظة ورود النفي أولا ثم العموم فتكون سالبة كلية كذلك يحتمل أن تكون من سلب العموم وذلك بملاحظة ورود العموم أولا ثم توجه النفي عليه فتكون سالبة جزئية وحينئذ يكون المعنى على هذا ليس كل بصر يدركه تعالى وهذا لا ينافي أن بعض الأبصار يدركه كما لا يخفى.
ثالثا : لا نسلم أن (أل) استغراقية بل هي للجنس فتكون الآية سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية في المعنى لا تدركه بعض الأبصار وتخصيصه بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض فالآية حجة لأهل السنة لا عليهم كما تدعي المعتزلة.
رابعا : سلمنا أنها لعموم السلب لكن لا نسلم أنها تفيد العموم في جميع الأوقات حتى تكون سالبة كلية دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم عند ما قرأ قوله تعالى (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)[الأعراف : ١٤٣] قال الله (يا موسى لا يراني حي إلا ـ