__________________
ـ وقال القاضي : معجزات الرسل كانت واردة على أيديهم بقدر أحوال زمانهم ، وكانت بحسب الفن الذي علا واشتهر فيه : فلما كان زمن موسى صلىاللهعليهوسلم غاية علم أهله بالسحر بعث إليهم بمعجزة تشبه ما يدعون قدرتهم عليه ، فجاءهم على يديه صلىاللهعليهوسلم منها ما خرق عاداتهم ، من انقلاب العصا حية واليد السمراء يدا بيضاء ، من غير سوء ، ولم يكن ذلك المعجز في قدرتهم ، وقد أبطل ما جاءهم منها. وكذلك زمن عيسى صلىاللهعليهوسلم كان انتهاء ما كان علم أهله الطب وأوفر ما كان في أهله ، فجاءهم على يديه صلىاللهعليهوسلم ما لم يخطر لهم ببال من إحياء الميت وإبراء الأكمه الذي ولد ممسوح العين ، والأبرص وهو الذي بيده بياض ـ فكان يأتيه من أطاق الإتيان ، ومن لم يطق ذهب صلىاللهعليهوسلم به إليه ، فربما اجتمع عنده الألوف ممن به داء فيداويهم من دون معالجة وطب بالدعاء ، وهكذا سائر معجزات الأنبياء كانت بقدر علم زمانهم ، فكان كل نبي يرسل إلى قومه بمعجزة من جنس ما عانوه من علم وصناعة وغيرها.
ثم بعث الله تعالى محمدا صلىاللهعليهوسلم وجملة معارف العرب وعلومهم أربعة :
البلاغة ؛ وهي ملكة يبلغ بها المتكلم في تأدية المعاني حدا يؤذن بتوفية كل تركيب حقه.
والشعر : وهو كلام موزون مقفى مراد به الوزن.
والخبر : يقصد به علم الأنساب.
والكهانة : وهي معاناة الخبر من الكائنات وادعاء معرفة الأسرار ؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة من أجل الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نوعه وطريقته. وكان العرب يتناضلون بالفصاحة ويتباهون في تحبير الشعر والبلاغة وكانوا أفصح الفصحاء ، ومصاقع الخطباء فأنزل الله تعالى على نبيه صلىاللهعليهوسلم قرآنا عربيا مبينا ، يشتمل على مذاهب لغة العرب ، فتلا عليهم كلاما متشابها في الرصف ، متجانس الوصف ، سهل الموضوع ، عذب المسموع ، خارجا عن موضوع لغة القريض والأسجاع ، مستعذبا في الأفهام والأسماع. فلما سمعوه استعذبوه. فقالوا فيه ما قالوا. فتحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم بعشر سور مثله فعجزوا. ثم تحداهم بسورة من مثله. قالوا عند العجز : بل القتل والقتال. وجنحوا ـ للقصور ـ إلى الجحود والجدال ، فلما عدلوا عن معارضته التي لو تمت لم يدل على كذبه إلى قتاله الذي لو تم مرادهم فيه لم يدل على كذبه كان الإعجاز باديا ظاهرا ، وعجزهم عن معارضته واضحا معلوما ، فالقرآن أفضل المعجزات لبقائه بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يبق معجز غيره بعد وفاة أصحابه ؛ ولأن الأحكام الشرعية مستنبطة منه ، ولم تستنبط من معجز سواه ، فالقرآن بحر لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وحكى أبو عبيد : أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)[الحجر : ٩٤] فسجد وقال : سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقول (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)[يوسف : ٨٠] قال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحكى الأصمعي : أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهي تقول : أستغفر الله من ذنوبي كلها.
فقلت لها : مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت :
أستغفر الله لذنبي كله |
|
قبلت إنسانا لغير حله |
مثل الغزال ناعما في دله |
|
انتصف الليل ولم أصله |
فقلت لها : قاتلك الله ، ما أفصحك!! فقالت : أتعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القصص : ٧] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
انظر : سبل الهدى والرشاد (٩ / ٥٧٢ ـ ٥٧٨). ـ