__________________
ـ الحرث والنسل.
أما دعوى هؤلاء : أن الذبح إيلام ، والإيلام قبيح ... فيحسن بنا أن نبسط فيها ما أجمل قبل فنقول :
لسنا ننكر أن في الذبح إيلاما ما ، ولكنّ في كثير مما يصيبنا من حوادث دنيانا آلاما ، تثقل أو تخف على حسب ما يلابسها من ظروف الزمان والمكان ، فالحرب إيلام ، والمرض إيلام ، وفي العلاج منه إيلام ، وفي وضع الحامل إيلام ، ولا تخلو لحظة في حياة الكائن الحي من ألم دفين يستشعره في باطنه أو ظاهر يصرح لسانه بالشكوى منه والتوجع له. والحكم على الأشياء يختلف بقياسها إلى غيرها ، والنظر في مقدماتها ونتائجها ، فقد يكون الألم في وقت ما شديدا ، فإذا قيس إلى غيره كان شيئا هينا لا يعبأ به ولا يشتكي منه.
والآن فلننظر أي الألمين أخف أثرا :
ذبح الحيوان بأيسر وسيلة ، أو تركه يعبث ويفسد ويزاحم الإنسان ـ سيد الكون ـ في قوته ومعاشه وداره؟
وبوجه آخر : أيهما أهون : أن يموت الحيوان ذبيحا بشفرة ماضية ، أو أن يموت الإنسان ـ سيد الكون ـ جوعان ، مهزولا ، لا طاقة له بالعمل واحتمال مشقات الحياة؟
ووجه ثالث : ما دام نظام الطبيعة القائمة أنه لا بد من آكل ومأكول ، فأيما خير : أن يكون الإنسان آكلا أو مأكولا؟
على أننا لو توسعنا في تلك القاعدة التي يزعم بها أولئك :
أن في الذبح إيلاما ، وأن الإيلام قبيح ... لو توسعنا في هذه القاعدة ، لجاز لقائل من بعد أن يقول : إن النبات كائن حي ـ وإنه لكذلك ـ وإن في قطعه إيلاما ، وإن في أكله إيلاما ، وإن الإيلام قبيح ..
وما ذا بعد ذلك إلا أن يقال : ما أقبح أن يؤكل النبات.
وهل توقد النار إلا من الحطب؟ فمن أين لنا النار والحرارة والدفء إن نحن أشفقنا على الغصن اليابس والهشيم الجاف.
ويقول أبو العلاء المعري :
خفف الوطء ما أظن أديم ال |
|
أرض إلا من هذه الأجساد |
وأبو العلاء حرم اللحم حياته ، فمن له وقد أشفق على الحيوان أن يأكله آكل ، وعلى تراب الأرض أن يطأه واطئ.
من له أن يعلم ... أو من لي بأن أعلم : أين تراب الأجساد من عهد نوح ، هل هو إلا ذرات متطايرة في الهواء ، أو لبنة من لبنات قائمة في بناء أو كومة من سماد في أصل نبات.
إلا أن قانون الطبيعة صارم ، فما دامت في الدنيا نار ونور فلا بد من حطب يشتعل وندع بعد ذلك كلّا لدعواه ، فليزعم من يزعم أن الحيوان قد ذبح جزاء على ما قدم من عمل ، أو أنه مجزي على هذه التضحية في الآخرة ، فسواء كان هذا أو ذاك ، وسواء أكان يحس أم لا ، فليس يعنينا شيء من ذلك ما دامت هذه شريعة الكون الذي برأه الله تعالى ورتب له نظامه على قدر منه وتدبير حكيم. هذا وقد ثبتت مشروعية التذكية بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
فمن الكتاب قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)[المائدة : ٣].
ووجه الدلالة أن حكم ما بعد الاستثناء يخالف ما قبله وقد حرم الله تعالى الميتة وما عطف عليها ـ