يفهمها غيرهم ، [على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصّهم إشارات يفهمها خواصهم ولا يفهمها غيرهم](١) ، هذا متعارف فيما بين الخلق أن يكون لهم فيما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا ؛ فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابات من الله خاطب بها رسله ـ وهم خواصه ـ يفهمونها ولا يفهمها غيرهم ، ثم وجه فهمهم يكون لوجهين :
يخبرهم فيقول : إني إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا ، أو كان البيان والمراد منها مقرونا بها وقت إنزالها ففهموا المراد منها بما أفهمهم الله وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم ؛ كقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] ، أرى رسله شيئا لم ير ذلك غيرهم ، ولا أطلعهم على ذلك ، فهو (٢) من المتشابه على غيرهم ، وأما على الرسل فليس من المتشابه (٣).
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : فهي.
(٣) يقول الدكتور إبراهيم صلاح الهدهد في رسالته «علاقة المطالع بالمقاصد في القرآن الكريم» : كان افتتاح تسع وعشرين سورة من القرآن الكريم بالحروف المقطعة ، تلك التي لم ينقل عن العرب دلالات لها ، ولو كانت لها دلالات لتواتر النقل عليها ، ولنقل ذلك علماء الصحابة. وكأن افتتاح السور بها ـ فيما أرى ـ داعية التوجه لمحاولة كشف أسرارها ، ووجودها في مطالع السور ، معلم دال على أهمية افتتاحات السور القرآنية ؛ لذا لم تقع ـ على كثرة مواقعها في الذكر الحكيم ـ في غير مطالع السور.
ولما لم تكن لها دلالات معلومة كان للعلماء بشأنها موقفان :
ذهب الشعبي وسفيان الثوري ، وجماعة من المحدثين إلى أنها سر الله في القرآن وهي من المتشابه.
وقال الجمهور من العلماء : بل يجب أن يتكلم فيها ، وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها.
وقد استجاد كثير من العلماء الوجه الثاني ؛ استبعادا لأن يحتوي كتاب الله على ما لا يفهم ، وقد تواترت النقول عن ابن عباس ـ ترجمان القرآن ـ بشأن تأويلها ، وغالب الظن أنها اجتهادات له ـ رحمهالله ـ وهو إمام الناس قاطبة في فتح مغاليق الذكر الحكيم ـ لذلك اتسع مجال القول بشأن هذه الفواتح ، بل خصها جماعة بمؤلفات ، فلابن أبي الإصبع : «الخواطر السوانح في أسرار الفواتح» ، ومن المحدثين د / محمد أبو فراج في «الحروف المتقطعة في أوائل السور القرآنية» ، د / محمد بدري عبد الجليل «براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور».
وقد أكثر ابن أبي الإصبع من التفسيرات الرياضية ، والحسابات الفلكية لهذه الحروف ، وقد حاول الباحث الأخير أن يضع مفهوما لهذه الحروف ، وأن يربط هذا المفهوم بمقاصد السورة ؛ قياسا على ما قدمه من تفسير لافتتاح قصائد الشعراء بأسماء محبوبات لا حقيقة لها في الواقع ، وربطه موضوع القصيدة بهذا الاسم الذي انتهى إلى أنه رمز ، واستنادا لما جاء في اللسان وغيره من معان لأسماء الحروف كمعنى (الألف) و (الحاء) و... إلخ.
يقول : «فلأمر ما نرجو ألا نهمله نص علماء الرسم القرآني على كتابة فواتح السور حروفا ، ولأمر ـ