ولكن قد ذكرنا (١) أنهم كانوا يتبعون عظماءهم في التحليل والتحريم ؛ كقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ١٣] ، وكانوا لا يتخذون أولئك الأحبار (٢) أربابا في الحقيقة ، ولكن كانوا يتبعونهم فيما يحلون ويحرمون ويصدرون عن آرائهم ؛ فسموا بذلك لشدة اتباعهم أولئك في التحليل والتحريم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).
قال أهل التأويل : يعني بالقليل : المؤمنين ، ولكن يحتمل قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ، أي : لا تتذكرون (٣) رأسا ؛ لأن الخطاب جرى فيه لأولئك الكفرة ، وفيهم نزلت الآية.
قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)(٩)
__________________
ـ مع تحققه بمعرفة الله ـ عزوجل ـ واطلاعه على حكمته لم يكن ممن يخاف عبادة تلك الجثث التي كانوا يعبدونها ، فكأنه قال : اجنبني عن الاشتغال بما يصرفني عنك ، قاله الراغب.
ينظر : تاج العروس (٣٢ / ٥٢٤ ، ٥٢٥) ، ومفردات الراغب (صنم).
(١) في ب : ما ذكرنا.
(٢) الحبر : العالم ، ذميّا كان ، أو مسلما بعد أن يكون من أهل الكتاب. وقيل : هو العالم بتحبير الكلام.
قاله أبو عبيد ، قال الشماخ :
كما خط عبرانية بيمينه |
|
بتيماء حبر ثم عرض أسطرا |
رواه الرواة بالفتح لا غير ، أو الصالح ، ويفتح فيهما ، أي : في معنى العالم والصالح ، ووهم شيخنا فرد ضمير التثنية إلى «المداد» و «العالم». وأقام عليه النكير بجلب النقول عن شراح الفصيح ، بإنكارهم الفتح في «المداد». وعن ابن سيده في المخصص ـ نقلا عن العين ـ مثل ذلك ، وهو ظاهر لمن تأمل. وقال الأزهري : وسأل عبد الله بن سلام كعبا عن الحبر فقال : هو الرجل الصالح. (ج : أحبار وحبور) قال كعب بن مالك :
لقد جزيت بغدرتها الحبور |
|
كذاك الدهر ذو صرف يدور |
قال أبو عبيد : وأما الأحبار والرهبان فإن الفقهاء قد اختلفوا فيهم ، فبعضهم يقول : حبر ، وبعضهم يقول : حبر ، وقال الفراء : إنما هو حبر ـ بالكسر ـ وهو أفصح ؛ لأنه يجمع على : أفعال ، دون «فعل» ، ويقال ذلك للعالم. وقال الأصمعي : لا أدري أهو الحبر أو الحبر ، للرجل العالم. قال أبو عبيد : والذي عندي أنه الحبر ـ بالفتح ـ ومعناه : العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. قال : وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح ، وكان أبو الهيثم يقول : واحد الأحبار : حبر ، لا غير. وينكر «الحبر». وقال ابن الأعرابي : حبر وحبر للعالم ، ومثله : بزر وبزر ، وسجف وسجف. وقال ابن درستويه : وجمع الحبر : أحبار ، سواء كان بمعنى العالم أو بمعنى المداد.
ينظر تاج العروس (١٠ / ٥٠٣ ، ٥٠٤).
(٣) في أ : يتذكرون.