__________________
ـ وقد يقال في تقرير الوجه الرابع : أجمعنا على أنه لله تعالى صفات قائمة بذاته تعالى ، ومعنى القيام هو التحيز تبعا ؛ فيكون هو متحيز أصالة.
والجواب : أن القيام بالنفس هو الاختصاص الناعت ؛ لأن معنى قيام الشيء بالشيء هو اختصاصه بحيث يصير الأول نعتا والثاني منعوتا ، سواء كان متحيزا كما في بياض الجسم ، أو لا كما في صفات الباري تعالى والمجردات.
الوجه الخامس : الاستدلال بالظواهر الموهمة التجسيم من الآيات والأحاديث ، نحو قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)[طه : ٥] فإن الاستواء يشعر بالتحيز ، يقال : استوى فلان على دابته ، أي : استقر ، وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)[الفجر : ٢٢] فإن المجيء الإتيان والانتقال من مكان إلى مكان ، وقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)[فصلت : ٣٨] فإن العندية مشعرة بالتحيز والجهة ، وقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] فإن الصعود : الحركة إلى جهة العلو ؛ فيشعر بكونه تعالى في جهة ، وقوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ)[الملك : ١٦] فإن من في السماء يكون متحيزا فيها ، وقوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)[النجم : ٨ ـ ٩] فإن الدنو مشعر بالتحيز ، لكن الاستدلال به مبني على رجوع ضمير «دنا» إلى الله تعالى لا لسيدنا جبريل عليهالسلام ... إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بحسب ظاهرها بالجهة والتحيز.
وأما الأحاديث المشعرة بذلك ، فمنها : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في كل ليلة» ـ وفي رواية : «في كل ليلة جمعة» ـ فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ، هل من مستغفر فأغفر له» وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ للجارية الخرساء : «أين الله؟! فأشارت إلى السماء ، فقررها ولم ينكر عليها ، وقال إنها مؤمنة» فالسؤال والتقرير المذكوران يشعران بالجهة والمكان ، وقد يستدل على التحييز أيضا بشيوع رفع الأيدي إلى السماء عند الدعاء ؛ فإنه طريقة متوارثة عن السلف.
والجواب : أن هذه ظواهر ظنية ؛ فلا تعارض الأدلة الفعلية اليقينية ؛ لأن الدليلين إذا تعارضا وجب العمل بهما ما أمكن الجمع بينهما ؛ لأن إهمال أحدهما يؤدي إلى نفي دلالة الدليل عنه ، فهذه الظواهر يجب تأويلها إجمالا ، ويفوض تفصيلها إلى الله كما هو رأي من يقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ)[آل عمران : ٧] وعليه السلف ، كما روي عن أحمد : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة. وإما تفصيلا كما هو رأي طائفة ، وهي التي تقف على قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)[آل عمران : ٧] في الآية المتقدمة ، وهو مذهب الخلف ؛ فتؤوّل الاستواء بالاستيلاء نحو قول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق |
|
من غير سيف ودم مهراق |
والعندية بمعنى : الاصطفاء والإكرام ، كما يقال : فلان قريب من الملك ، (وَجاءَ رَبُّكَ)[الفجر : ٢٢] أي : أمره ، و : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)[فاطر : ١٠] أي : يرتضيه ؛ فإن الكلم عرض يمتنع عليه الانتقال ، و (مَنْ فِي السَّماءِ)[الملك : ١٦] أي : حكمه أو سلطانه أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب للمستحقين ، والعروج إليه : هو العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات ، والتقدير ب (قابَ قَوْسَيْنِ) تصوير للمعقول بالمحسوس ، والنزول محمول على اللطف والرحمة وترك ما يستدعيه عظم الشأن وعلو الرتبة على سبيل التمثيل ، وخص بالليل ؛ لأنه مظنة الخلوات وأنواع الخضوع والعبادات.
وأما حديث الجارية الخرساء فإن السؤال فيه كان بلفظ «أين الله؟» لاستكشاف ما ظن أنها معتقدة ـ