__________________
ـ له من أن الإله في مكان ، فلما أشارت إلى السماء علم أنها ليست وثنية ، وعلم أن إشارتها إلى السماء لتبين أن الإله هو خالق السماء ، ومع ذلك فالحديث خبر آحاد وهو ظني ؛ فلا يعارض الدليل القطعي وهو العقلي. وأما رفع الأيدي إلى السماء عند الدعاء فليس لأن المدعو في السماء ـ تعالى عن ذلك ـ بل لأن السماء قبلة الدعاء ، كما أن الكعبة شرفها الله تعالى جعلت قبلة الصلوات.
فكما أن الله ـ عزوجل ـ يخصص بعض الأمكنة ببعض العبادات ، فكذلك بعض الجهات بالتقرب إليه تعالى بالدعاء.
وخلاصة القول في هذه الظواهر الموهمة للتجسم : أن علماء المسلمين وأئمة الدين قد اختلفت آراؤهم في تأويل هذه النصوص ، وكلهم مجمعون على تنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق بعظمته وجلاله ، لا يتبارون إلا في تقديس الذات الإلهية عن مشابهة المخلوقات ، ولا يقصدون إلا الوصول إلى السمو بربهم عن شائبة الحادثات ؛ لأنهم عرفوا من دينهم الكريم أن المعبود بحق ينبغي ألا يكون ناقصا من أي ناحية ؛ فلا يصح أن يكون ماديّا : بشرا أو حجرا أو شمسا أو قمرا ، كما لا يصح أن يكون مصورا ؛ أو محددا أو متناهيا أو متبعضا أو جميل الصورة أو قبيحها أو حالا في جسم فإن كل ذلك يستلزم الاحتياج المنافي لعظمة الإله ، وكل ذلك يستلزم الحدوث ، والحادث لا يصح أن يعبد ، ولا يصلح أن يكون مصدرا للعالم يفيدهم الوجود والبقاء ، فمن ظن بربه شيئا فقد كفر وجهل مقام ربوبيته ورضي لنفسه أن يعبد من هو دونه أو مثله من خلقه ، وذلك نقص عظيم في العقل الإنساني لا يرضاه لنفسه إلا من عجز عن إدراك أسهل النظريات وأوضح المقدمات ، ولا تقبله إلا العقول الضعيفة المقيدة بسلاسل التقليد الأعمى كما قال الضالون : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف : ٢٣].
أما ما قاله الأئمة في هذه النصوص :
فأولا : قال الإمام مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ : إن الاستواء واليد ونحوهما صفات لله تعالى زائدة على صفات المعاني السبع : القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ، فزاد عليها أيضا صفة يقال لها الاستواء وصفة يقال لها اليد ، وصفة يقال لها الوجه ، وإذا كانت صفات فقد ارتفع الإشكال ؛ فليست اليد جارحة حتى يكون الله تعالى جسما ، وهكذا على أنه قال : إن هذه الصفات لا يعرف معناها ولا المراد منها ؛ فهو قد جزم بتنزيه الإله عن المادة والجسمية ، فقال : إنها صفات ، ولم يشأ أن يجرؤ على بيان معناها ؛ أدبا مع الله تعالى ، وخوفا من أن يقول ما عساه ألا يكون هو المراد ، وهذا نهاية الحذر والحيطة والأدب مع رب العالمين ، وهذا قول للأشعري أيضا ، وإليه يشير أحمد بقوله : الآيات المتشابهات خزائن مقفلة حلّها تلاوتها.
وثانيا : قال كثير من الأشاعرة : إنها صفات كما قال الإمام مالك ، ولكنهم أولوها فقالوا : إنها صفات ترجع إلى صفات المعاني ، فالاستواء معناه الملك أو القهر ، وهذا كناية عن القدرة ، والذي يقول هذا التأويل يراه ضروريّا لا بد منه ؛ لأن اللغة تقتضيه والعقل يؤيده ، فما معنى الإحجام عنه ، والتزام أن كتاب الله تعالى يشتمل على ما لا يمكن إدراكه مع كونه بلسان عربي مبين ، على أن البيان هنا ضروري ؛ لأنه متعلق بتنزيه الإله وقطع إيهام العقول بأن الله جسم أو متصف بصفات الحادثات ، وأيضا : فإن التأويل لازم على أي حال ، وإلا كان القرآن متناقضا ؛ لأنه قال في موضع : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] وقال في موضع آخر (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] فكيف يكون مستويا على العرش وموجودا مع كل واحد! لا مناص من القول بأن معنى المعية : العلم ، ومتى صح ذلك التأويل فلما ذا لا يصح تأويل الباقي ما دامت اللغة تقتضيه والعقل يؤيده؟! ـ