وأن يكون لله (١) مكان يوصف بالكون فيه وعليه ؛ لأنه ليس في كون أحد في مكان ـ وإن جل قدره ، وعظم خطره ـ رفعة ولا نباهة فيما يتعارف من أمر الملوك والأجلة ، بل كل منسوب إلى مكان من جهة التمكين فيه والقرار ، منسوب إلى استعانة وحاجة منه إليه ، جل الله عن ذلك ، وعلى أنه إما أن يكون مثله أو أعظم منه ، لكان له عديلا بالعظمة أو دونه ، ومن السخف الجلوس على مكان لا يطمئن به أو يقصر عنه ، إذ قد يجوز أن يزاد فيه ؛ فيكون أعظم منه ، جل الله عن هذا الوصف وتعالى.
«بل كان ولا مكان فهو على ما كان يتعالى عن الاستحالة والتغير» (٢) : إذ هو أثر
__________________
ـ وأما قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ)[آل عمران : ٧] فهو راجع إلى علم قيام الساعة وعلم الغيب ؛ فالتشابه الذي لا يصح الخوض فيه هو ما كان خارجا عن طاقة العقل الإنساني كمعرفة حقيقة ذات الإله وقيام الساعة وعلم الغيب ، وهلم جرا.
وثالثا : الوقف ، وأصحاب هذا الرأي يقولون : لا نعرف إن كانت ذاتا أو صفة ، ولا ندري لها معنى ، وهم يقولون : إن من يسمع شيئا من هذه النصوص يجب عليه أمور : تقديس الإله عما لا يليق به ، والتصديق بها ، والاعتراف ، والإمساك عن الكلام فيها ، فهذه هي آراء أهل السنة في هذه النصوص ، فإذا تبين لنا هذا صح للإنسان أن يعتقد أو يعمل بأي رأي من هذه الآراء.
ولكن ينبغي لمن يريد أن يرشد الناس أو يتصدى للجدل والحوار ، أن يختار ما يناسب حال مخاطبه ، فإذا كان يظن أن يشتبه عليه الأمر أو يشك في شيء إذا سلك معه مذهب أهل الوقف وجب عليه في هذه الحالة أن يرجع إلى التأويل ؛ حتى لا يضلل الناس ، وإذا أراد أن يحتاط لنفسه واستراح لاعتقاد الوقف فله ذلك ، لأن الله تعالى لم يكلفنا إدراك حقيقتها ، ومتى لم يكلفنا الله بذلك ولم يكن ثمة حاجة إلى إدراك حقائقها فلا حرج علينا إذا لم ندركها ، أما إذا كان العقل لا يطمئن إلا إلى التأويل ولا يرضى إلا بإدراك معاني النصوص الشرعية ، ويأبى الوقف عند شيء منها ـ فإن له ذلك في حدود اللغة والشرع ، وله أن يأخذ برأي هؤلاء السادة المؤوّلين ، جزاهم الله جميعا عن الدين أحسن الجزاء.
فإذا أراد الباحث أن يطبق هذه الأمور الثلاثة في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)[طه : ٥] مثلا :
كان له أن يعتقد الرأي القائل بالوقف عن التأويل ، فيقول : إنه يؤمن بأن الله تعالى منزه عن المادة والجسم والمكان ، ويؤمن بأنه استوى على العرش استواء لا يعرفه ولا يعرف كيفيته ولا يسمح لنفسه بالخوض في معناه ؛ إذ ربما يخطئ الغرض الحقيقي منه فيصف ربه بغير ما أراده ، وهذا خطر عظيم.
وله أن يعتقد الرأي القائل بأن الاستواء صفة لله تعالى زائدة على صفات المعاني ، فليس معناها هو الظاهر منها ؛ لأنه يستحيل على الله تعالى ، ولكن لا يعرف معنى هذه الصفة ولا يسمح لنفسه بالبحث عن معناها ، وهذا قريب من الأول ، إلا أن الأول لم يقل : إنها صفة أو غير صفة.
وله أن يعتقد الرأي القائل بالتأويل فيقول : إن هذه عبارة عربية لها مدلول حقيقي ظاهر ، فإذا كان هذا المدلول لا يناسب عظمة الخالق سبحانه فإنه يجب صرف اللفظ عن ذلك المدلول إلى المعنى المناسب ، بشرط أن يكون ذلك المعنى تقتضيه اللغة ويقره العقل ويرضاه الدين.
ينظر : الدرر السنية في تنزيه الحضرة الإلهية ، لأحمد المستكاوي ص (١٠ ـ ١٥ خ).
(١) في أ : له.
(٢) في ب : والتغيير.