__________________
ـ فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ؛ ولذلك أجمعت الأمم على أنه لا بد لهذه الأعمال من الانقطاع عن المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء ، بل الاعتزال عن الخلق ، وكلما كانت هذه الأمور أتمّ كانت هذه التأثيرات أقوى.
والسبب فيه : أن النفس إن اشتغلت بالجانب الواحد اشتغلت جميع قواها في ذلك الفعل ، وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قواها وتوزعت على تلك الأفعال ؛ ولهذا من حاول الوقوف على مسألة فإنه حال تفكره فيها لا بد أن يفرغ خاطره عما عداها ؛ فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه بكليته إليها فيكون الفعل أحسن وأسهل ، وإذا كانت كذلك كان الإنسان المشغول الهم والهمة بقضاء الشهوات وتحصيل اللذات ، وكانت القوة النفسانية مشغولة بها مشغوفة إليها مستغرقة فيها ـ فلا يكون انجذابها إلى تحصيل ذلك الفعل قويّا شديدا.
والقسم الثالث من السحر : الاستعانة بالأرواح الأرضية.
واعلم أن القول بالجن أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة ، أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية ، بعضها خيرة وبعضها شريرة ، فالخيرة هم مؤمنو الجن ، والشريرة هم الكفار.
وهي قادرة عالمة ، واتصال النفوس بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية ، إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة لها بسبب الاتصال بالأرواح السماوية.
ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة لشاهدون أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقي والتجريد.
والقسم الرابع من السحر : التخيلات والأخذ بالعيون.
وهذا النوع مبني على مقدمات : إحداها : أن أغلاط البصر كثيرة ؛ فإن راكب السفينة إن نظر إلى الشطّ رأى السفينة واقفة والشط متحركا ، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركا والمتحرك ساكنا ، والقطرة النازلة ترى خطّا مستقيما ، والشعلة التي تدار بسرعة ترى دائرة ، والشخص الصغير يرى في الضباب عظيما ، ويرى العظيم من البعيد صغيرا ؛ فعلم أن القوة الباصرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه في الجملة لبعض الأسباب العارضة.
ثانيتها : أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوس وقوفا تامّا إذا أدركت المحسوس في زمان له مقدار ، فأما إذا أدركته في زمان صغير جدّا ثم أدركت محسوسا آخر وهكذا ، فإنه يختلط البعض بالبعض ، ولا يتميز بعض المحسوسات عن البعض الآخر ، ومثال ذلك : أن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوط كثيرة بألوان مختلفة ثم استدارت فإن الحس يرى لونا واحدا كأنه مركب من الألوان.
وثالثتها : أن النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر فلا يتبعه الحس البتة ، كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه ؛ لما أن قلبه مشغول بشيء آخر ، وكذا الناظر في المرآة فإنه ربما قصد أن يرى قذاة في عينه فيراها ولا يرى ما [هو] أكثر منها ، وربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا فلا يرى شيئا مما في المرآة.
فإذا عرف هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر ؛ وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أنظار الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئا آخر بسرعة شديدة ، فيبقى ذلك العمل خفيّا ، وحينئذ ـ