__________________
ـ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدّا ، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن تعلمه ، ولم يحرك الناس والأوهام والأنظار إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون بكل ما يفعله ، فهذا هو المقصود من قولهم : إن المشعبذ يأخذ بالعيون ؛ لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال لها.
فإذا عرفت هذه الأقسام فأقول : المعتزلة أنكروا السحر بجميع أقسامه إلا التخيل.
أما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا ، إلا أنهم قالوا : إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عند ما يقرأ الساحر رقي مخصوصة وكلمات معينة ، فأما أن المؤثر لذلك هو الفلك أو النجوم فلا ، وقد أجمعوا على وقوع السحر بالقرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)[البقرة : ١٠٢].
وأما الأخبار فأحدها : ما روي أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سحر ، وأن السحر عمل فيه حتى قال : «إنه ليخيل إليّ أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله» ، وأن امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر راعوفة البئر ، فلما استخرج ذلك زال عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك العارض ونزلت المعوذتان بسببه.
وثانيها : أن امرأة أتت عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت : إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت : وما سحرك ، فقالت صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي : يا أمة الله ، لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا ، فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فبولي على ذلك الرماد ، فذهبت لأبول عليه ، ففكرت في نفسي فقلت : لا أفعل ، وجئت إليهما فقلت قد فعلت ، فقالا لي : ما رأيت لمّا فعلت؟ فقلت : ما رأيت شيئا ، فقالا لي : أنت على رأس أمرك فاتقي الله ولا تفعلي ، فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فافعلي ، فذهبت ففعلت ، فرأيت كأن فارسا مقنّعا بالحديد خرج من فرجي فصعد إلى السماء ، فجئتهما فأخبرتهما فقالا : إيمانك خرج عنك ، وقد أحسنت السحر ، فقالت : وما هو؟ قالا : ما تريدين شيئا يتصور في وهمك إلا كان ، فصورت في نفسي حبّا من حنطة ، فإذا أنا بحب الزرع فخرج من ساعته سنبله ، فقلت : انطحن ، فانطحن وانخبز ، وأنا لا أريد شيئا إلا حصل ، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ليس لك توبة. انتهى من التفسير الكبير ، وقد قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في «مدارج النبوة» : إن السحر في الشرع حرام ، وقال البعض : إن تعلم الإنسان له بنية دفع السحر عن نفسه ليس حراما ، والساحر الذي لا يكون سحره كفرا تقبل توبته ، أما إذا كان سحره كفرا فإنه يقتل ، وفي قبول توبته اختلاف مثل الزنديق الذي يكون منكرا للدين والنبوة والحشر والنشر والقيامة ، وهناك اختلاف في حقيقة السحر ، فالبعض يقول : إنه مجرد تخيل وإيهام ، وهذا اختيار أبي بكر الأسترآباذي من الشافعية ، وأبي بكر الرازي من الحنفية وطائفة أخرى.
أما جمهور العلماء فيتفقون على أن السحر حقيقة ، وفي ظاهر الكتاب والسنة المشهورة دلالة على ذلك ، ولكنهم يختلفون في هذا الأمر ، وهو أنه إذا كان له تأثير في تغيير المزاج فقط فهو نوع من المرض أو ينتهي تأثيره مع الحالة ، يعني انقلاب حقيقة الشيء بحقيقة أخرى ، كما يصير الإنسان جمادا والعكس ، ويصير الإنسان حمارا والكبش أسدا والعكس ، والجمهور يقول بهذا.
والبعض يقول : إن السحر ليس له ثبوت ووقوع ، وهذا الكلام مكابرة وباطل ، والكتاب والسنة ناطقان بخلافه.
والسحر من الحيل الصناعية التي تحصل بالأعمال والأسباب بطريق الاكتساب ، وأكثر وقوعها من أهل الفسق والفساد ، وإذا كانت في حالة الجنابة ازداد تأثيرها ، بل إذا كانت الجنابة ناشئة عن ـ