يجوز من همته الدنيا](١) وما ذكر أن يكون له الرسالة بحال ، وهمّة الأنبياء كانت الدين وطلب الآخرة.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ).
هذا ليس على إلقاء هذا ، وترك أولئك الإلقاء ؛ لأنه لو كان على إلقاء أحدهما لكان لا يتبين السحر من الآية ، لكن إلقاء الأول كأنهم قالوا : يا موسى إما أن تلقي أولا أو نحن الملقون أول مرة ، وهو كما ذكر في آية أخرى : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) [طه : ٦٥] ، وقول موسى : (أَلْقُوا) كأنه أمره ربه أن يأمر بذلك ؛ قال موسى : (أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) هذا يدل أن السحر إنما يأخذ الأبصار على غير حقيقة كانت له (٢) ، وهو كالسراب (٣) الذي يرى من بعيد (٤) ؛ كقوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ...) [النور : ٣٩] الآية ، فعلى ذلك السحر يأخذ الأبصار ظاهرا ، فإذا هو في الحقيقة باطل لا شيء ، وكالخيال في القلوب لا حقيقة له ، وكان قصدهم بالسحر استرهاب الناس ، وتخويفهم به.
ألا ترى أنه ذكر في آية أخرى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] ، وقد ذكرنا أن ما جاء به الرسل لو كان سحرا في الحقيقة ، لكان ذلك حجة لهم في إثبات الرسالة ؛ لأن قومهم لم يروهم اختلفوا إلى ساحر قط ، فيدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك بالله تعالى ، وهو كالأنباء التي أتى بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] يخرج على وجهين :
أحدهما : أخذ سحرهم بصره كما أخذ أعين الناس.
والثاني : خاف أن سحرهم يمنع أولئك عن رؤية حقيقة ما جاء به.
وقوله : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أي : أخذوا كقوله : (مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٥] ، أي : مأخوذ أعينكم.
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : له كانت.
(٣) السراب : ما لمع في المفازة كالماء ، وذلك لانسرابه في مرأى العين. وكأن السراب لما لا حقيقة له كما قال تعالى : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩] كما أن الشراب لما له حقيقة. وأنشدني بعضهم في التجانس والتضمين :
ومن يرجو من الدنيا وفاء |
|
كمن يرجو شرابا من سراب |
لها داع ينادي كل يوم |
|
لدوا للموت وابنوا للخراب |
ينظر : عمدة الحفاظ (٢ / ٢١٣).
(٤) في ب : من بعد.