__________________
ـ الثاني أخص ، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص ؛ كما لا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم ؛ لأن الأخص قد يمتنع في حين يتحقق الأعم في فرد آخر من أفراده ، ولهذا نظير ، مثل لو قلت : لا تجلس في هذا المكان ، فإن هذا لا يقتضي منعك من مطلق الجلوس ، ولا من الجلوس في مكان آخر ؛ لأنه يجوز أن يكون سبب منع الخاص جهة خصوصه ، وعليه أن الممتنع هو الوجود الثاني الأخص ، ولا يؤثر في امتناع مقابله الذي هو الوجود الأول لأنه لم يؤثر في امتناع الأعم الذي هو مطلق الوجود.
الاعتراض الثاني : أن الوجود الثاني إنما امتنع بسبب صفة لازمة للمعدوم ، وهي طرآن العدم عليه ، وهذه الصفة لا توجد في الوجود الأول ؛ فلا ينبني على امتناع الوجود الثاني امتناع الوجود الأول.
وقد أجيب عن هذين الاعتراضين : بأن الوجود من حيث هو وجود أمر واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة ؛ إذن فالوجود ابتداء والوجود إعادة هما أمر واحد ، وأما كون أحدهما أولا والآخر ثانيا فإن هذه صفات عارضة لا تأثير لها في الأصل وهو الوجود ، وبعبارة أخرى ، فإن كون الوجود أولا أو ثانيا أمر إضافي لا يغير الماهية ، ومثل الوجود الإيجابي فإنه أمر واحد ويختلف بحسب الإضافة ، والقاعدة أن كل أمرين اتحدا ماهية واختلفا بحسب العوارض فإنهما يتلازمان في أحكام الماهية ، التي هي الوجوب الذاتي والإمكان الذاتي والامتناع الذاتي ؛ والخصم قد أعطى الوجود الثاني حكما هو الامتناع الذاتي ، فيجب أن يعطاه الوجود الأول ؛ لأن الامتناع المذكور راجع إلى الذات وهي واحدة لا تختلف. وعلى هذا صحت الملازمة (وثبت أصل الدليل كان الوجود الثاني ممتنعا لذاته أو للازمه لما وجد أولا).
الدليل الثاني على الدعوى :
أن إعادة إيجاد الشيء أهون من بدء إيجاده ، وكل ما كان كذلك فهو جائز ، فالإعادة جائزة وقد دل على هذا قول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] والأهونية بالنسبة لقدرة العباد لا بالنسبة لله تعالى ؛ لأن الممكنات جميعا بالنسبة إليه سواء ، لا تفاوت فيها بالأهونية ، والمعنى إذن : أن الله تعالى قد ضرب لكم مثلا بما تعهدونه في قدرتكم من أن بعض الممكنات أسهل عليكم من البعض الآخر ، وما تعهدونه في عمل صنعة ، فإيجادها ثانيا أسهل عليكم من البدء ، فكذلك الإعادة بالنسبة إليه تعالى فإنها إيجاد ثان ، فهي بالقياس إلى ما تعهدونه تكون أسهل عليه تعالى ، ولكن الله تعالى له المثل الأعلى ، أي الصفة التي هي أعلى وأكمل من كل صفة ، وقد فهم بعض المفسرين أن الضمير في قوله تعالى : (عَلَيْهِ) راجع إلى الخلق ، والمعنى أن الإعادة أهون على الخلق ، أي القابل لأن يخلق وهو المعدوم ، فإن الأهونية كما تكون بالنسبة إلى الفاعل باستجماع الشرائط تكون أيضا بالنسبة إلى القابل ، فدرجة القابلية متفاوتة ، فالمعدوم الذي سبق اتصافه بالوجود درجة قبوله للموجود ثانيا أسهل وأهون ، أي : يقبل الوجود قبولا أسرع من قبول المعدوم أولا ؛ وقد اعترض على هذا الدليل بأن إيجاد المعدوم ثانيا ليس أهون ؛ لأنه عدم محض ، فكيف يقال : إنه يقبل الوجود قبولا أسرع؟ بل هو متساو مع المعدوم الأول ، فلا أهونية ، وإنما تحصل الأهونية إذا كان يوجد مثل للمعدوم ، فيكون إيجاد مثله أهون ؛ لأن صورته باقية محفوظة ، ولكن ليس الكلام هاهنا في إيجاد مثل للمعدوم ، بل في إيجاد المعدوم بعينه ، وعلى هذا فالدليل يلائم إعادة الجسم عن تفريق ؛ لأن الأجزاء موجودة مستعدة ومتصفة بالوجود ، فقبولها للوجود الثاني أسهل.
والحقيقة إن هذا الاعتراض الوارد على هذا الدليل هو من القوة بمكان بحيث يمكننا القول بأن هذا الدليل لا يصلح معتمدا للمستدلين به ، لكن يبقى لهم قوة دليلهم الأول ، والله أعلم. ـ