__________________
ـ يوجد في موسى ـ عليهالسلام ـ وقت الطلب. يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس : تلا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذه الآية فقال : قال الله تعالى : (يا موسى ، إنه لا يرانى حي إلا مات ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم).
كذلك يدل على أن التأبيد المستفاد من قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال ، يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس ، وفيه يقول : (يا موسى ، إنه لن يراني أحد فيحيا ، قال موسى : رب أن أراك ثم أموت أحب إلى من ألا أراك ثم أحيا). وقد نبه جل شأنه بقوله : (لَنْ تَرانِي) على وجود المانع ، وهو الضعف عن تحملها ، حيث أراه ضعف من هو أقوى منه وتفتته عند ما تجلى عليه الرب وغشيه ذو الجلال والإكرام ، فعاد الجبل متقوض الأركان متداخل الأجزاء سقيم القوام ، وعاد موسى فاقد الحياة ؛ لطلبه الانكشاف وهو باق على حاله.
أفاق موسى واسترد حياته وقال : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنزهك عن أن أسألك شيئا بغير إذنك ، تبت عن الإقدام وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة ، وليس كما يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان ، فكان موسى يعلم امتناعها وقد طلبها وهي ممتنعة ، بل تاب من طلب الرؤية بغير إذن ، وكيف لا يتوب وهو الرب صاحب الجبروت وهو موسى المصطفى الكليم. وقد قيل قديما : حسنات الأبرار سيئات المقربين؟!
إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في غنية عن أدلة الجواز ، لكن دفعهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب قد يأتيها الخصم بمنع إمكان المطلوب ؛ لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقلية والعقلية ، وكان سلوكهم بهذا الطريق كافيا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي.
ولقد كانوا على حذر من المعتزلة ، فلم يركنوا إلى القول بأن الأصل في الشيء ـ لا سيما فيما ورد فيه الشرع ـ هو الإمكان ؛ لأن هذا إنما يحسن في مقام النظر والاستدلال دون المناظرة والاحتجاج ، كذلك لم يكن منهم في بيان الجواز أن العقل إذا خلّي ونفسه لم يحكم بالامتناع ؛ لأن هذا هو الإمكان الذهني وليس محل النزاع ، فالخصم يقول العقل بعد التخلية لا يحكم بامتناع الرؤية كما تقول أهل السنة ، لكن بعد ملاحظة الدليل من كونه تعالى منزها عن المكان والجهة وليس جسما ، كما أنه غير مكيف بالعوارض التي هي شروط الرؤية يحكم بامتناعها ، والحق أنه يصح أن يكون محل النزاع ؛ لأن العقل إذا كان حاكما بالجواز بعد التخلية عملنا بالظواهر الدالة على الوقوع ما لم يقم دليل على الامتناع ؛ إذ لا يمكن صرف الظواهر ولا التوقف فيها بمجرد احتمال أن يظهر دليل عقلي على الامتناع ، وإلا توقف العمل بالظواهر الواردة في الأحكام الشرعية.
وإذا كفى أن عدم حكم العقل بعد التخلية كاف بالعمل بالظواهر ، وإذا ظهر أنه يصح أن يكون محلّا للنزاع ـ كفى في الاستدلال على الجواز أن يقال : العقل حاكم بجواز الرؤية ، وما حكم العقل به ما لم يقم دليل على بطلانه يجب قبوله ، وإلا لارتفع الإمكان عن العقل ، فإثبات صحة الرؤية بأدلة ذكروها مستغنى عنه ، لكن حيث ذكرت كان علينا أن نبين وجهة النظر في الآية الكريمة بطريق منطقي ، وهي من وجهين :
الأول : وحاصله قياسي استثنائي يقرر هكذا : لو لم تكن رؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة ما طلبها موسى ـ عليهالسلام ـ من ربه ، لكنه طلبها فهي جائزة. ـ