أن يريد هو هداية من يعلم أنه يختار عداوته ؛ لأن ذلك يكون من الضعف أن يختار المرء ولاية من يختار هو عداوته ، فدل أنه لم يرد الهداية لمن علم منه اختيار الغواية والضلال.
ثم إضافة الإغواء والإزاغة والإضلال إلى الله يخرج على وجهين :
أحدهما : أنه ينشئ ذلك الفعل منهم غيا وزيغا وضلالا لا بد ؛ لأن فعلهم فعل غواية وزيغ.
والثاني : أنه خذلهم ولم يوفقهم ولم يرشدهم ولم يعصمهم ولا سددهم ، فمن ذلك (١) الوجه ليس فعله فعل الذم عليه حتى يتحرج بالإضافة إليه ، ومن الإضافة إلى الخلق يكون على الذم ؛ لأن فعلهم نفسه فعل غواية وضلال ، فاستوجبوا الذم عليه بذلك ، والإغواء من الخلق هو الدعاء إلى ذلك أو الأمر به ، فهو مذموم يذمون على ذلك وليس من الله تعالى من هذا الوجه ، ولكن على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وفي قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) دلالة تعليق الشرط على الشرط.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : بل يقولون.
إنه افتراه من عند نفسه قل : (٢)(إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) : اختلف فيه ؛ قال بعضهم : قال قوم نوح لنوح ـ عليهالسلام (٣) ـ : إنه افترى على الله أنه رسول إليهم من الله على ما سبق من دعائه قومه إلى دين الله ، فقالوا له : إنه افتراه.
وقال بعضهم : هو قول قوم محمد (٤) قالوا : افترى محمد هذا القرآن من نفسه ليس هو من الله على ما يزعم ، وهو ما قال في صدر السورة ، وهو قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) إلى آخر ما ذكر ، فعلى ذلك هذا هو قولهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إنه افترى هذا القرآن الذي يقول هو من الله من نفسه فقال : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي : إن افتريته فعليّ جرم افترائي وجزاؤه.
(وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) معناه ـ والله أعلم ـ أي : لا تؤاخذون أنتم بجرم افترائي إن افتريته ، وأنا لا أؤاخذ بإجرامكم ؛ كقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] وكقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، فعلى ذلك إجرامى ، وأمكن أن يكون هذا القول لهم لما أيس من إيمانهم ؛ كقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا
__________________
(١) في ب : ذا.
(٢) في أ : قيل.
(٣) ذكره البغوي بمعناه (٢ / ٣٨١) ونسبه لابن عباس وأبي حيان في البحر (٥ / ٢٢٠).
(٤) ذكره ابن جرير (٧ / ٣٣) ، وكذا البغوي بمعناه (٢ / ٣٨١) ونسبه لمقاتل.