ثم قوله : (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) : ليس على إرادة حقيقة الجنب والقعود والقيام ، ولكن على الدعاء في كل حال ، أي : يدعونه في كل حال ؛ لما عرفوا أن الذين كانوا يعبدون من دون الله لا يملكون دفع ما حل بهم من الشدائد والمضار ـ أقبلوا على الله بالتضرع والدعاء إليه في كشف ذلك عنهم (١).
ثم أخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعودهم إلى الحال التي كانوا من قبل فقال : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) : يقول ـ والله أعلم ـ : مر كأن لم يدعنا قد نسينا في الرخاء كأن لم يعرفنا [واستمر على ترك الدعاء في الرخاء ، وقوله : (كَذلِكَ) عرفنا ما كانوا يعملون والإسراف هو العدوان](٢) والتعدي عن الحد الذي جعل له وهو وضع الأموال والأنفس في الموضع الذي لا ينتفعون بها في عبادة الأصنام وغيرها ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) : فإن قيل : قد أهلك من قد ظلم ومن لم يظلم ، فما يعلم من أهلك من الظلمة أنه إنما أهلكهم لظلمهم ، أو أهلك لصلاح من لم يظلم.
قيل : إنه أهلك الظلمة إهلاك استئصال وعقوبة ، وأهلك من لم يظلم لا إهلاك عقوبة واستئصال ، إنما هو إهلاك بآجالهم التي جعل لهم.
ويحتمل قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : إنما أهلك أولئك بسؤالهم الذي سألوا سؤال تعنت رسلهم الآيات ، فإذا جاءوا بتلك الآيات كذبوها ، فأهلكوا عند ذلك ، فأنتم يا أهل مكة إذا سألتم رسولكم الآية ثم
__________________
(١) وفي كيفية النظم وجهان :
الأول : أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا ، لهلك وقضي عليه ، فبين في هذه الآية ما يدل على ضعفه ، ونهاية عجزه ؛ ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات.
الثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى عنهم : أنهم يستعجلون نزول العذاب ، فبين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الاستعجال ؛ لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يؤذيه ، فإنه يتضرع في إزالته عنه ؛ فدل على أنه ليس صادقا في هذا الطلب. ينظر اللباب (١٠ / ٢٧٧).
(٢) سقط في أ.