وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي : ارجعوا إليه رجوعا حتى لا تعودوا إلى مثل صنيعكم أبدا (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) يرحم من تاب إليه ، والله يرحمه (وَدُودٌ) يحتمل وجهين :
أحدهما : ودود : أي : حق أن يودّ ؛ إذ منه كل شيء وكل إحسان ، والناس جبلوا على حب من أحسن إليهم.
والثاني : ودود لمن توسل إليه وتقرب.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) قوله : (ما نَفْقَهُ) يحتمل : ما نفهم وما نعقل كثيرا مما تقول (١) ؛ كأنهم يقولون ذلك على الاستهزاء والهزء به ؛ كأنهم نسبوه إلى الجنون ؛ يقولون : لا نفهم ما تقول ؛ لأن كلامك كلام مجانين. وهذه هي عادة القوم ؛ كانوا ينسبون الرسل إلى الجنون.
ويحتمل : ما نفقه : ما نقبل كثيرا مما تقول ، فإن كان على الفهم فهو كقوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠] وهم كانوا فريقين : فريق كانوا يقولون : قلوبنا أوعية للعلم ؛ كقولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فإن كان ما تقول حقّا نفهم ونعقل كما نعقل غيره ، وفريق قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] كانوا يعقلون أنهم لا يفهمون ولا يفقهون ؛ لأن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر ، والفريق الأول يقولون : إن قلوبنا أوعية للعلم ، فلو كان حقّا لعقلناه كما عقلنا غيره ، فهؤلاء كانوا يصرفون العيب إلى الرسول ، وأولئك إلى أنفسهم ، فعلى ذلك قوم شعيب يحتمل أن يكون قولهم كذلك ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) يحتمل هذا وجهين :
أحدهما : أي : إنك لست من كبرائنا وأجلتنا ، إنما أنت من أوساطنا ، وعلى ذلك الأنبياء إنما بعثوا من أوساط الناس (٢) ، لا من كبرائهم في أمر الدنيا ، فالقوي والعزيز عند أولئك القوم من عنده الدنيا والمال ، وأما من لم يكن عنده المال فهو عندهم ضعيف ذليل ؛ لأنهم لا يعرفون الدين ، ولا يؤمنون بالآخرة ، لذلك قالوا ما قالوا.
__________________
(١) استدلوا بهذه الآية على أن الفقه : اسم لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه ؛ لأنه أضاف الفقه إلى القول ، ثم صار اسما لنوع معين من علوم الدين ، وقيل : إنه اسم لمطلق الفهم ، يقال : أوتي فلان فقها في الدين ، أي : فهما ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «... يفقّهه في الدين» أي : يفهمه تأويله.
ينظر اللباب (١٠ / ٥٥٢).
(٢) في أ : القوم.