هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : يرجعون ؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة لما عسى يقع عندهم أن واحدا منا جعل هذا في متاعنا وأوعيتنا سرّا منهم ففعل يوسف هذا ؛ ليرجعوا ؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة (١).
والثاني : ما قاله أهل التأويل : لما تخوف يوسف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى فجعل دراهمهم في أوعيتهم ؛ لكى يرجعوا إلينا ؛ فلا يحبسهم عنا عدم الدراهم (٢) ؛ لأنهم كانوا أهل ماشية (٣).
قوله تعالى : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي
__________________
(١) ثبت في حاشية ب : هذا لا يحتمل مع قولهم لأبيهم : هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا كما لا يخفى ، والله أعلم. كاتبه.
(٢) وذكر في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم وجوها :
أولها : أنهم إذا فتحوا المتاع ، فوجدوا بضاعتهم فيه ، علموا أن ذلك كرم من يوسف ؛ فيبعثهم ذلك على العودة إليه.
وثانيها : خاف ألا يكون عندهم غيره ؛ لأنه زمان قحط.
وثالثها : رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه ، وإخوته ـ مع شدة حاجتهم إلى الطعام ـ لؤم.
ورابعها : قال الفراء ـ رحمهالله ـ : إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم ، فيحسبوا أن ذلك وقع سهوا ، وهم أنبياء وأولاد أنبياء ؛ فيحملهم ذلك على رد البضاعة ؛ نفيا للغلط ، ولا يستحلون إمساكها.
وخامسها : أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم منه عتب ولا منّة.
وسادسها : قال الكلبي : تخوف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى.
وسابعها : أن مقصوده أن يعرفوا أنه لم يطلب أخاهم لأجل الإيذاء والظلم ، وإلا لطلب زيادة في الثمن.
وثامنها : أن يعرف أباه أنه أكرمهم ، وطلبهم بعد الإكرام ؛ فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.
وتاسعها : أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمن ، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق ، فوضع الدراهم في رحالهم ؛ حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
وعاشرها : أنه قابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغة في الإحسان إليهم.
ينظر : اللباب (١١ / ١٤٤ ، ١٤٥).
(٣) ذكره ابن جرير (٧ / ٢٤٤) ، وكذا البغوي (٢ / ٤٣٥).