وعلى تأويل الحسن : يكون قوله : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في الدنيا ، ويجوز أن يوصفوا بالظلم في الآخرة أيضا ؛ بكذبهم فيها في قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وأمثاله من الكذب ؛ حيث ينكرون الإشراك في ألوهية الله وعبادته ، كأن هذا الإنكار والكذب منهم في أول حالهم ، ظنّا منهم أن ذلك ينفعهم ، فإذا لم ينفعهم إنكارهم طلبوا الرد إلى الدنيا ، أو إلى حال الأمن ؛ ليعملوا غير الذي عملوا ؛ كقولهم : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣] فإذا لم يردّوا وأيسوا عن ذلك ؛ فعند ذلك أنطق الله جوارحهم ؛ حتى تشهد عليهم بما كان منهم فعند ذلك يقرون ، ويعترفون بذنوبهم ؛ كقوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١١].
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) قال بعضهم (١) : يسلمون ويستسلمون لأمر الله ، ولكن لو كان ما ذكروا لم يكونوا ينكرون عمل السوء ، كقولهم : ما كنا نعمل من سوء.
وقال بعضهم : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) : هو الاستخزاء ، والخضوع والتضرع.
ويشبه أن يكون قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) عند الموت يؤمنون عند معاينة ذلك ، أو سلموا عليهم في الآخرة على ما رأوا في الدنيا المؤمنين يسلم بعضهم على بعض.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) في الآخرة ، والله أعلم بذلك ، فأكذبهم الله في قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) ؛ فقال : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا وعيد يخبر ألا يجوز كذبهم في الآخرة ، ولا يحتمل كما جاز في الدنيا ؛ ولم يظهر.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) وقوله : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي : بئس مقام المتكبرين الذين تكبروا على دين الله ، أو تكبروا على ما جاء به الرسل من الله ، وما أنزل الله عليهم.
قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٢)
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً).
قال أهل التأويل (٢) : هذا قول المؤمنين ؛ مقابل قول المشركين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ
__________________
(١) قاله ابن جرير (٧ / ٥٧٩) ، والبغوي (٣ / ٦٧).
(٢) قاله قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢١٥٧٦) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢١٨).