عليه ، والتكوين ثبت أن التكوين غير المكون ، ثم لا يخلو من أن يكون التكوين بتكوين آخر إلى ما لا نهاية له ، أو لا بتكوين ، وقد بينا فسادهما جميعا ، وهما وجها الحديث ، ثبت أن الله تعالى به موصوف في الأزل ، وبالله التوفيق.
والثاني : من فعله كسب سمي كاسبا ، ومن فعله باسم سمي به ، فلو كان فعل الله كلية الخلق يسمى به ، فيسمى ميتا ، متحركا ساكنا ، خبيثا طيبا ، صغيرا كبيرا ، ونحو ذلك ، فإذا كان يتعالى عن ذلك (١) وقد سمي فاعلا ، مميتا محييا ، محركا مسكنا ، جامعا مفرقا ؛ ثبت أن فعله غير مفعوله ، وأنه بذاته يفعل الأشياء ؛ لا بغيره ، وفي ذلك لزوم الوصف له به في الأزل ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا).
كان ظلمهم إياهم على وجوه :
منهم من ظلم بالإخراج من الدّيار والطرد من البلد ؛ كقوله : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ...) الآية [الممتحنة : ٩] ومنهم من ظلم بالمنع عن (٢) الهجرة ، ومنهم ظلم بالمنع عن إظهار الإسلام ؛ والعمل له ، وأنواع ما أوذوا وظلموا بإظهارهم الإسلام ، وإجابتهم رسول الله ، واتباعهم إياه.
ثم وعد لهم في الدنيا حسنة ؛ فقال : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) : قيل : لنعطينهم ، وقيل (٣) : لنرزقنهم ، وهو واحد.
(فِي الدُّنْيا حَسَنَةً).
تحتمل الحسنة في الدنيا العزّ بعد الذل ، والسعة بعد الضيق ، والشدة والنصر والغلبة لهم بعد ما كانوا مقهورين مغلوبين في أيدي الأعداء ، والذكر والشرف بعد الهوان ، هذه الحسنة التي بوّأهم في الدنيا.
__________________
(١) في أ : هذا.
(٢) في أ : من.
(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير (٢١٥٩٣) ، (٢١٥٩٤) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٢١).