فمن قدر على جعل السمع حتى يسمع الأصوات ويميز بينها ، والبصر ليبصر ويميز بين ألوان الأجسام ، والفؤاد (١) ليفهم ويعقل ما له وما عليه ، ما لا يدركون ماهية ما به يسمعون ويبصرون ويعقلون ، وما به يميزون بين ما ذكرنا فهو قادر على إنشاء الخلق بعد الفناء والإعادة بعد الموت. ثم ذكر على أثر قوله : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) : السمع والبصر والأفئدة ؛ فذلك يدل على أن هذه الأشياء من أسباب العلم بالأشياء ، بها يوصل إلى العلم بالأشياء ؛ فمن أعطي أسباب العلم بالشيء فكأن قد أعطي له العلم به ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
هو حرف شك في الظاهر ؛ ذكر ـ والله أعلم ـ لأنه لا كل الناس يشكرون نعمه ، أو لكي يلزمهم الشكر.
قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ)(٨٣)
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ).
أي : من قدر على إمساك الطير ، وهي أجسام كغيرها من الأجسام في الهواء بلا إعانة في الأسفل ولا تعلق بشيء من الأعلى ، لقادر على إنشاء الخلق وإعادتهم بعد الفناء.
__________________
(١) «الأفئدة» جمع فؤاد ؛ نحو : أغربة وغراب ، قال الزجاج : ولم يجمع (فؤاد) على أكثر العدد ، وما قيل : (فئدان) ، كما قيل : (غراب وغربان).
ولعل الفؤاد إنما جمع على جمع القلة ، تنبيها على أن السمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليل ، لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية ، والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ؛ فلهذا جمع جمع القلة ، قاله ابن الخطيب.
وقال الزمخشري ـ رحمهالله تعالى ـ : إنه من الجموع التي استعملت للقلة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلة ، نحو : (شسوع) ، فإنها للكثرة ، وتستعمل في القلة ، ولم يسمع غير شسوع. كذا قال ، وفيه نظر ، فقد سمع فيهم (أشساع) فكان ينبغي أن يقال : غلب (شسوع).
ينظر : اللباب (١٢ / ١٢٩).