وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ).
الطبع : هو التغطية : تغطي ظلمة الكفر نور القلب والسمع ونور البصر ، كأن لكل أحد نورين وبصرين ، ظاهر وباطن يبصر بهما جميعا ؛ فإذا ذهب أحدهما أو عمي ـ صار لا يبصر ؛ كمن يبصر ببصر الظاهر ، إنما يبصر بنور بصره ونور الهواء ؛ فإذا دخل في أحدهما آفة ذهب الانتفاع ، وصار لا يبصر شيئا ؛ فعلى ذلك للقلب بصر خفي ، وبصر ظاهر الذي هو معروف ؛ فإنما يبصر بهما ؛ فإذا غطى ظلمة الكفر بصر القلب صار لا يبصر شيئا ؛ ألا ترى أنه قال : (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] أخبر أن الأبصار الظاهرة لم تعم ؛ ولكن عميت القلوب التي في الصدور ، هذا يدل على ـ ما ذكرنا والله أعلم ـ معنى طبع السمع والبصر (١).
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).
__________________
ـ ولا معلولا له ؛ فبطل هذا التأويل.
ينظر : اللباب (١٢ / ١٦٨).
(١) قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه :
الأول : أنه ـ تعالى ـ أشرك ذكر ذلك في معرض الذم ، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه.
الثاني : أنه ـ تعالى ـ أشرك بين السمع ، والبصر ، والقلب في هذا الطبع ، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصح أن يكون مؤمنا ، فضلا عن طبع يلحقهما في القلب.
الثالث : وصفهم بالغفلة ، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه ، فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب ، وتقدم الجواب في أول سورة البقرة.
ثم قال ـ تعالى ـ (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)[النحل : ١٠٨] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أي : عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)[النحل : ١٠٩] ، أي : المغبونون ، والموجب لهذا الخسران أنه ـ تعالى ـ وصفهم بصفات ستة :
أولها : أنهم استوجبوا غضب الله.
وثانيها : أنهم استحقوا العذاب الأليم.
وثالثها : أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
ورابعها : أنه ـ تعالى ـ حرمهم من الهداية.
وخامسها : أنه ـ تعالى ـ طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
وسادسها ـ أنه ـ تعالى ـ جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة ، فكل واحد من هذه الصفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات ، ومعلوم أنه ـ تعالى ـ إنما أدخل الإنسان في الدنيا ؛ ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة ، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة ، عظم خسرانه ؛ فلهذا قال ـ تعالى ـ : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)[النحل : ١٠٩] ، أي : هم الخاسرون لا غيرهم.
ينظر : اللباب (١٢ / ١٦٨ ، ١٦٩)