يأخذ العقول هو أن يذهب بعقله فيصير مجنونا.
وقال فرعون لموسى : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١] أي : مجنونا ، لكن هؤلاء لم يريدوا بقولهم : (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) : السحر الذي يأخذ العقول ، ولكن أرادوا السحر الذي يأخذ الأبصار ؛ يقولون : إنه وإن كان أخذ الأبصار في الظاهر فهو لا شيء في الحقيقة ، ولكن في قولهم : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) دليل أنهم عجزوا عن رده ، وعرفوا أنه حق ، ولكن هم أرادوا التمويه على الناس ؛ كقول فرعون لسحرته حين آمنوا برب موسى : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] أراد أن يموه على الناس ؛ والله أعلم.
قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : ٥٤] : إن القوم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ، ويتخذون الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ؛ يقول : إن ربكم الله الذي يستحق العبادة والألوهية هو الذي خلقكم وخلق السموات والأرض لا الذي تعبدونه (١).
__________________
(١) لما حكى عن الكفار تعجبهم من الوحي والبعثة والرسالة ، أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب ، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب ، وهذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين آخرين :
أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا قاهرا ، نافذ الحكم بالأمر والنهى والتكليف.
والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ؛ حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عن حصولهما ، فلذلك ذكر ما يدل على تحقيق هذين الأمرين.
فأما إثبات الإله ، فيقول تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)[الأعراف : ٥٤] وأما إثبات المعاد ، فبقوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا)[يونس : ٤] فهذا ترتيب في غاية الحسن.
فإن قيل : كلمة «الذى» وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السامع ، كما إذا قيل لك : من زيد؟ فتقول : الذي أبوه منطلق ، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان «أبوه منطلق» أمره معلوما عند السامع ، فهاهنا لما قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يوجب أن يكون ذلك أمرا معلوما عند السامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف؟ ـ