وأما (١) قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) ، فيخرج هذا القول منهم مخرج الاحتجاج : لو شاء الله أن نؤمن لأنزل ملائكة كقوله : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً). ففيه يوضح الشبهة لهم أن يقولوا : هو بشر [ونحن بشر](٢) فليس هذا أولى بالرسالة إلينا من أن نكون نحن رسلا إليه ، فذلك موضع الشبهة ، فأجابهم لذلك لما استنكروا واستبعدوا بعث الرسول إليهم من جوهرهم وجنسهم ، فقال : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : مقيمين ساكنين فيها (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) ؛ ثم اختلف فيه.
قال بعضهم : (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ) ، أي : لو كان سكان الأرض ملائكة ، فبعث إليهم رسولا منهم أكان لهم أن (٣) يقولوا : أبعث الله ملكا رسولا ، أي : أبعث الله إلينا من جوهرنا؟! أي : ليس لهم أن يقولوا ذلك ؛ فعلى ذلك إذا كان سكانها البشر ليس لهم أن يقولوا : أبعث الله إلينا من جوهرنا رسولا.
والثاني : لو كانت الأرض مكان الملائكة ، وهم سكانها ، لكان لكم أن تقولوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) من غير جوهرنا ، فأمّا إذا كانت الأرض مكان البشر ، وهم سكانها ، فليس لهم أن ينكروا بعث الرسول منهم ومن جوهرهم ؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة ، ولا من كان من غير جوهرهم ، ويعرفون من كان من جوهرهم ، فبعث الرسول من جوهرهم أولى بهم من غير جوهرهم.
أو يقول : لو كان في الأرض ملائكة وبشر ، فعرفوا الملائكة ، لكان لهم أن يسألوا رسولا من الملائكة لما عرفوهم ، فأمّا إذا كان سكان الأرض ليسوا إلا بشرا فليس لهم أن يقولوا ذلك ؛ لأنهم لم يعرفوا قوى الملائكة ، ولا قوى الجن ، وقد عرفوا قوى البشر فيعرفون الآيات والحجج من التمويهات إذ عرفوا قواهم ولم يعرفوا قوى الملائكة والجنّ ؛ فلا يعرفون ما أقاموا أنها آيات وحجج ، أو كان ذلك بقواهم ، ويعرفون ذلك من البشر إذا خرجت من احتمال وسعهم وقواهم.
وبعد فإنهم قد أقروا برسالة البشر ؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة إلا بخبر من البشر أنه ملك ؛ إذ لم يكن [لهم خلطة معهم](٤) ليعرفوهم ؛ وإنما يعرفونهم بخبر من البشر : أنه
__________________
(١) في أ : وكذا.
(٢) سقط في أ.
(٣) في ب : من.
(٤) في أ : معهم خلط.