ثم أخبر ـ عزوجل ـ عنهم خبرا مستأنفا فقال : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ؛ كقول الله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ثم قال : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ، وهذا على كلامين ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ).
يشبه أن يكون قوله : (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) القول الذي أسروا فيما بينهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، وقوله : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ، وقوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) ، وأمثال ما قالوا فيه ونسبوه إليه ، أي : قل لهم : ربي يعلم ذلك القول منكم في السماء والأرض لينتهوا عن ذلك ؛ لأن من يعلم في الشاهد أن أحدا يطلع على جميع ما يختاره من القول والفعل ، ترك ذلك وامتنع عن التفوه به والإقدام على ما يختاره.
أو أن يكون قال ذلك على الابتداء والاستئناف أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : السميع لقولهم ، العليم بأفعالهم.
ثم أخبر عن سفههم وقلة نظرهم في قولهم وكلامهم وحفظهم عن التناقض فقال : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) فيما نسبوه إلى الشعر والسحر والافتراء وأنه أضغاث أحلام تناقض في قولهم ؛ لأن السحر هو غير الافتراء ، والسحر غير أضغاث الأحلام ، كل حرف من هذه الحروف التي نسبوه إليها يناقض الآخر ويبطله ؛ فدل أنهم إنما قالوا ذلك ونسبوه إلى ما نسبوا متعنتين مكابرين لا عن معرفة وعلم قالوا ذلك ؛ إذ تناقض قولهم وكلامهم ؛ إذ السحر لا يدوم ولا يبقى في وقت آخر ، فإذا عرفوا وعلموا أنه دام وبقي إلى آخر الدهر ، وكذلك ما قالوا من أضغاث أحلام والافتراء ، أعني : ما أتى رسول الله به ، وبعد فإنه لو كان ما أتاهم به سحرا كان ذلك آية وعلامة على صدقه ونبوته ؛ لأن السحر لا يعرفه أحد إلا بالتعليم ، فإذا رأوه نشأ بين أظهرهم ولم يكن في قومه ساحر حتى يتعلم منه ، ولا اختلف إلى أحد من السحرة يتعلم منهم السحر ، ثم أتى به ـ لكان ذلك يدل على أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى ، فكيف وقد أتاهم بالحجج المنيرة الواضحة والآيات المعجزة الخارجة عن وسع البشر وطوقهم؟ لكنهم كابروا وعاندوا في ردها وتكذيبها ، والله الموفق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).
قد علموا علم حقيقة أنه قد أتاهم بآيات وحجج ما لو تأملوا فيها ولم يكابروا ، لدلهم على صدقه ورسالته ، وقد عرفوا أنه صادق ، لكنهم سألوا في قولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) الآية التي تنزل عند المكابرة والعناد ، وهي الآية التي نزلت في الأمم الخالية عند مكابرتهم